ليس رحيل أحمد فؤاد نجم بالحدث الذي يمكن لأحدنا أن يمر عليه مرور الكرام، حتى لو فقد الموت جاذبيته في العقود الأخيرة ولم نعد نجد الوقت الكافي للتوقف طويلاً عند موت الشعراء والمبدعين. وفي زمن الحروب الأهلية وقتلى المجازر الجماعية والسلاح الكيماوي سيبدو الموت الطبيعي أمراً غير ذي شأن، إلا إذا كان من نفقده قريباً أو صديقاً أو حبيباً، لأن الموت هو شأن شخصي قبل أي شيء آخر. ذلك أن الألم الذي يتسبب به سيكون بحجم المساحة الشاغرة التي خلّفها الراحلون وراءهم والتي لن يستطيع أن يشغلها أحد. غير أن لرحيل أحمد فؤاد نجم مذاق الرماد في الفم، والغصة في القلب، والثلم في الروح. ليس بالضرورة أن يكون نعشه قد خرج من بيوتنا وتهادى على طرق مدافننا العائلية. ولكن كل واحد منا، نحن الذين رافقت قصائده وكلماته مطالع شبابنا الأول، يشعر الآن بأن جزءاً من حياته وأحلامه وصبواته قد ذهب معه إلى القبر، وأن نوعاً من الهواء «الأصفر» يلفح وجوهنا التي غضنتها التجاعيد وأرواحنا التي أتلفتها الخيبات. فبعد هزيمة حزيران لم يخرج صاحب «يعيش أهل بلدي» من أحياء الغورية والسيدة زينب وحي الحسين فحسب بل خرج من حاجتنا إليه، من توقنا إلى صرخة اعتراض على اليأس والموت والخرس «العمومي». كان بعضنا آنذاك قد بلغ العشرين من عمره، وبعضنا لم يبلغها بعد، حين تناهت إلينا على مقاعد الدراسة الجامعية أشرطة التسجيل التي حملت قصائده مغناة بحنجرة الشيخ إمام الفارهة وملحّنة بنقرة عوده الملتاع. لقد شلت الهزيمة أعصابنا آنذاك وأفقدتنا إيماننا بكل شيء، إلى حد أننا لم نكفر بالحضور الأبوي الأسطوري لجمال عبد الناصر وحده بل عملنا على إعدام كل ثقافة أو أغنية أو رواية مواكبة. وبأعجوبة استثنائية نجا من أحكامنا الثقافية «العرفية» صوت فيروز. كأننا كنا نريد هدم الهيكل على من فيه. ليس فقط على مستوى القادة وأنظمة الحكم، بل على مستوى الأحزاب القومية والدينية والشيوعية الرسمية التي حمّلناها مسئولية التواطؤ مع النموذج السوفياتي من جهة ومع الأنظمة العسكرية التي لم تحل شعاراتها التقدمية المدّعاة دون وقوع الهزيمة من جهة أخرى. كان كل شيء يتصدع ويهتز في ذلك الزمن الذي بدا فيه شبان العالم الفتيون ذاهبين لانتزاع الكرة الأرضية من عهدة الشيوخ وسدنة الهيكل والجاثمين على المصائر الجماعية للشعوب المستضعفة. وهو ما بدا جلياً عبر هزيمة الأمريكيين في فيتنام، وعبر انحناء الجنرال ديجول للأعاصير الطلابية العاتية في فرنسا، وعبر الحركات الاجتماعية والثقافية والفنية التي عكست من خلال الجاز والروك والبيتلز والهيبيين وغيرهم رغبة الأجيال الصاعدة في الخروج من دوامة الحروب الماحقة. وفي الإطار العربي ظهرت المقاومة الفلسطينية المتنامية بوصفها البديل شبه الوحيد للنظام العربي المهزوم، وشكل قدومها إلى لبنان وعاصمته الرافعة الأهم لليسار الجديد وللحركة الوطنية اللبنانية بوجه عام. أيقونات كنت بعدُ طالباً في كلية التربية حين بدأ الرفاق في «منظمة العمل الشيوعي» التي انخرطت في صفوفها آنذاك، يتناقلون أشرطة الثنائي الفني المصري أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام. ورغم أن تلك الأشرطة كانت تعاني من نقص فادح في الجودة ونقاء الصوت، فقد كنا نتلقف أغنياتها البعيدة عن ذائقتنا اللبنانية المحلية كما لو أنها أيقونات «مقدسة» تضاف إلى النصوص الماركسية الأم، ونتبارى في حفظها وإنشادها بحماسة بالغة. لم تكن الأغنيات تلك شبيهة بالأغاني الحماسية التقليدية للثورات، والتي تحتوي في الغالب على عدد غير قليل من جثث الشهداء، وكميات غير قليلة من الدماء المراقة. بل كانت أشبه بحلقات الذكر الصوفية التي تعتمد على الترجيع والتكرار والخدر الصوتي والروحي. ولعل ما رسخ ذلك الإيحاء في دواخلنا هو حمل المغني الضرير إمام عيسى للقب الشيخ، وما يستتبع ذلك من إحالات نفسية وغيبية. بدت قصائد أحمد فؤاد نجم في تلك المرحلة المعادل المحكي لقصائد مظفر النواب، الهارب بدوره من جحيم العراق، والذي حاول جاهداً المواءمة بين شعرية الانتشاء شبه الصوفي بالمرأة والحب والخمرة وبهجة العالم، وبين الانتصار للمقاومة وفقراء الأرض وعمالها ومستضعفيها، دون أن يتورع عن تحويل بعض قصائده شتائم وأهاجي موزونة ضد سفلة الطبقات الحاكمة. وكان زياد الرحباني في لبنان يلاقي ظاهرة نجم الشيخ إمام في تبرمها بالرومانسية وجنوحها إلى اللغة العارية والسخرية السوداء والهجاء المقذع للواقع. وقد سبق ذلك بقليل انفجار ظاهرة الأغنية الوطنية أو السياسية التي اتخذت أبعاداً متغايرة مع مرسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر وآخرين. السبعينيات قد تكون حقبة السبعينيات من القرن المنصرم إحدى أكثر الحقب الزمنية ثراءً وغنى واكتناهاً للحقائق المتباينة. ليس فقط بسبب الإرهاصات الأولى لتحولات الأرض وتغير خرائطها، بل لأن الاعتراض على السائد ذهب في منحيين متضادين تماماً: منحى التماهي مع الايديولوجيا والتطابق شبه الكامل بين الفن ولافتات السياسة والفكر، ومنحى الإيغال في الحداثة والانتصار لكشوفها اللغوية والإبداعية. وقد بدا الشعراء الشبان، وأنا بينهم، يومها ساحة مفتوحة لذلك الصراع الضاري بين الأساليب والخيارات. كنت أتتلمذ في كلية التربية على الأفكار والرؤى الحداثية الصادمة لأدونيس وخليل حاوي وميشال عاصي وأنطون غطاس كرم ويمنى العيد، فيما كان التنظيم الماركسي الذي أنتمي إليه يسخر من قصائدي «الحديثة» ويجرني بقسوة إلى المثال المضاد لثقافة «الاستعلاء» الذي شكل أحمد فؤاد نجم نموذجه وعنوانه. ولم تكن استقالتي من العمل الحزبي المباشر، قبل تخرجي فى الجامعة بسنة واحدة، سوى احتجاجي الرمزي على تدجين الشعر وإلحاقه بالايديولوجيا وتحويله إلى شعارات حماسية مباشرة. ولقد احتاج الأمر بعدها إلى سنوات غير قليلة لكي أقرأ نصوص أحمد فؤاد نجم بحيادية تامة، وبعيدة عما ألحقته بي ظاهرته من ضرر شخصي، ليتبين لي لاحقاً بأن النظرة القاصرة التي حملت هذا الشاعر على محمل التعبئة الايديولوجية المباشرة أساءت إلى شعره دون قصد، وحرمت قراءه من الانتباه إلى مدى التصاق هذا الشعر بالينابيع الأصلية للوجدان المصري، وبالجانب الشفوي من لغة الجماعة التي تسجل على طريقتها اعتراضها على الفساد والقهر والجوع دون وسائط تنميقية ملفقة. وما احتفاء الميادين المصرية الثائرة بأحمد فؤاد نجم سوى اعتراف جلي وساطع بصرخته المبكرة التي شقت الطريق أمام فجر مصر الذي طال انتظاره.