آن لنا ان نتنبه الي ان مسألة صعود الاخوان المسلمين الي الحكم بدأت في تركيا قبل وقت طويل، منذ عام 2002 . اما لماذا لم نتنبه الي هذه الحقيقة قبل ذلك فلأن تركيا الحكومة الاخوانية شغلتنا بالانجاز الاقتصادي الذي حققته في السنوات الاخيرة، ولكن حتي هذا الانجاز الاقتصادي له وجهان ولم نر منه الا وجها واحدا. من منا يدرك ان الاخوان المسلمين صعدوا الي السلطة في تركيا قبل ان تأتي احداث "الربيع العربي" بسنوات؟ من منا التفت الي حقيقة ان دور تركيا في احداث ما اسمي بالربيع العربي كان الدور الغالب سواء في تونس او في مصر او بعد ذلك في الربيع الدموي في ليبيا وتضخم الدور التركي بحكم الجوار في سوريا. تراوح الدور الأمريكي في أحداث هذه البلدان بين الدعم الاقتصادي وبالتالي السياسي كما في حالة مصر والدعم العسكري – التخطيطي والقتالي – كما في حالة سوريا. وما كان لاحد ان يتصور ان تثور تركيا الجماهير ضد حكم الاخوان المسلمين قبل ان تفرغ تركيا الاخوان من مهمتها الثقيلة في سوريا التي مثلت دور حلف الاطلسي ولخصته عسكريا وسياسيا. ولكن هذا ما حدث. بل انه دخل من باب الغضب الشعبي في اسطنبول علي خطة حكومة الطيب اردوغان لازالة ميدان "التقسيم" اهم ميادين المدينة التركية الاجمل والاكثر اتساعا، الميدان الذي يرتبط في اذهان الجماهير بالتجمعات الجماهيرية عندما كان المتنفس الوحيد لهذه الجماهير للتعبير عن معارضتها وغضبها …واخيرا ثورتها. زيادة الفقر لم يتوقع احد – حتي الحكومة التركية الاخوانية نفسها – ان تتحول مظاهرة من الف شخص من اجل ميدان "التقسيم" الي مظاهرات سياسية من اجل تخليص تركيا من حكم الاخوان المسلمين المموه المتخفي في صورة حزب العدالة والتنمية، تماما مثل تخفي تنظيم الاخوان المسلمين المصري خلف تسمية حزب الحرية والعدالة. اعتقد اردوغان وباقي القادة الاخوانيين الاتراك ان بامكانهم ان يحتموا من الثورة الجماهيرية التي انتشرت في انحاء المدن التركية ونمت من خمسة آلاف الي اكثر من ثلاثمائة الف بالانجاز الاقتصادي الكبير الذي وصف رقميا بانه نمو تجاوز نسبة العشرة بالمائة. ولكن مظاهرات الجماهير وانضمام الاتحاد العام العمالي اليها كشف حقيقة ان النمو الاقتصادي التركي لم يكن له اي انعكاس حقيقي علي حياة العمال والجماهير الفقيرة. لقد طال رجال الاعمال والاغنياء وربما نجح في طمأنة الطبقة المتوسطة ولكنه لم يعرف طريقا، اي طريق، الي الفقراء فبقيت احوالهم كما كانت، بل انها ازدادت ترديا بسبب صعود ثروات اصحاب الثروات. لمصلحة أمريكا كان من الطبيعي والمنطقي ان تتحول المظاهرة الصغيرة الخاصة بالدفاع عن مصير ميدان "التقسيم" (فلنتصور اذا قررت حكومة الاخوان المسلمين المصرية ازالة ميدان التحرير) الي ثورة عارمة شاملة للمدن التركية من اجل التخلص من حكومة الاخوان المسلمين وسياساتهم الزائفة ودورهم الاطلسي ضد ثورات البلدان العربية القريبة مثل سوريا والبعيدة مثل ليبيا. لقد دلت مظاهرات الجماهير التركية ضد حكم الاخوان المسلمين المشمول بتأييد أمريكا ووراءها حلف الاطلسي وعي جماهير العمال الاتراك بحقيقة ان الاخوان المسلمين الاتراك انما يعملون لمصلحة الأمريكيين ولمصلحة حلف الاطلسي. ولعل حكومة الاخوان المسلمين التركية كانت تريد ان تحقق ما فشلت فيه تركيا طوال الاعوام الماضية، وهو الحصول علي عضوية الاتحاد الاوروبي . ولكن مواقف الدول الاوروبية من تركيا بقيت علي عنصريتها واغلب الظن انها ستبقي كذلك دائما مهما بذلت الحكومات التركية المتعاقبة – بما فيها حكومة الاخوان المسلمين – من جهود للبرهنة علي ان مصالح اوروبا والاطلسي اسبق لديها من مصالح الشعب التركي بعماله وفلاحيه وجميع فقرائه. اقتصادي لا اجتماعي إن حكومة الاخوان التركية لم تعن ابدا بما يسمي في قواميس الثورة "العدالة الاجتماعية". بقيت الاسبقية في اهتماماتها لما يسمي في القواميس القديمة اوروبية كانت او أمريكية او حتي آسيوية "النمو الاقتصادي". وللحقيقة فان حكومة الاخوان التركية نجحت في تحقيق نسبة عالية من النمو الاقتصادي، ساعدته علي ذلك ظروف التردي الاقتصادي الاوروبي والأمريكي والشرق اوسطي. ولكنها لم تفكر ابدا في فتح النوافذ الاقتصادية ليخرج منها هواء ينعش حياة الفقراء الاتراك. بطبيعة الحال لم تتخذ المظاهرات الشعبية التركية ضد الاخوان المسلمين كحكام هدفا لها تذكير الحكام بان الفقر لا يزال ينهش اجساد الفقراء فحسب. المظاهرات الشعبية مضت الي ما هو ابعد من ذلك، مضت الي السياسة الخارجية التركية، الي اصل البلاء في حالة الطبقة العاملة والفلاحين والفقراء وهو اجبار تركيا علي ان تبقي تحت حكم الاخوان المسلمين عضوا في حلف الاطلسي تنفذ خططه وتؤدي دورها ضد الشرق الاوسط العربي بمساعدة دول النفط الخليجية الغنية التي اصبحت جزءا من خطط هذا الحلف. لقد برهنت تركيا الاخوان المسلمين علي اخلاصها لتركيا الاطلسي، تماما كما برهنت مصر تحت حكم الاخوان المسلمين علي انها تبقي مخلصة للسياسات الأمريكية والاطلسية. واذا كانت أمريكا قد برهنت علي قبولها حكم الاخوان في مصر بشروط. فانها برهنت قبل ذلك علي قبولها حكم الاخوان المسلمين في تركيا بشروط. والشروط هي هي في الحالتين. فليس مطلوبا من الاخوان هنا او هناك سوي تنفيذ خطط الغرب الأمريكية والاطلسية في المنطقة التي تقع فيها مصر وتقع تركيا. وهنا لابد من الالتفات الي حقيقة بالغة الاهمية في تبين الفروق بين هاتين الدولتين وهي ان حجم تركيا الاقتصادي يعادل ثلاثة امثال حجم مصر الاقتصادي. وهذا امر يجعل تركيا أكثر طموحا من مصر في رغبة الهيمنة السياسية والاقتصادية وحتي الثقافية علي المنطقة. بينما تظل مصر غارقة في محاولة حل المشكلات الاقصادية التي أغرقتها فيها سياسات الاخوان المسلمين التي لا تكاد تتجاوز حدود تضخيم ثروات الزعماء الاخوان علي حساب الاقتصاد الوطني المصري (…) طموح رجال الأعمال ان اهتمام تركيا الراهن بالشرق الاوسط وتغيير ملامحه السياسية والاقتصادية يتعلق بطموح رجال الاعمال الاتراك وخاصة الاخوان منهم في تكبير احجام ثرواتهم. وهذا طموح لا يختلف كثيرا عن طموح رجال الاعمال الاخوان المصريين سوي في الحجم والاتجاه. وهذا اهم أسباب التحالف بين هذين الطرفين تحت توجيه الولاياتالمتحدة لادوار كل منهما. وهذا يفسر الي حد بعيد سكوت واشنطن علي تحول تركيا طوال حكم الاخوان المسلمين في السنوات العشر الاخيرة الي واحد من اسوأ البلاد القمعية في العالم. ولا يتناقض هذا الوضع مع اسراع واشنطن الي توجيه تحذير الي حكام تركيا من قمع المظاهرات الجماهيرية بالعنف الذي ادي الي سقوط اكثر من الف وخمسمائة مصاب. فالولاياتالمتحدة تفضل القمع الخفي ولا تصبر علي القمع الذي تسجله كاميرات التليفزيون والصحافة. لهذا سكتت واشنطن عن القمع كنظام في تركيا طوال السنوات العشر الاخيرة بينما لم تصبر علي القمع المرئي والمسموع الذي اتت به مظاهرات الجماهير التركية. ولقد ظهر بوضوح ان الجماهير التركية ترمي الي التخلص من حكم الاخوان القمعي. وأظهرت استعدادها لمقاومة هذا النظام حتي تحقيق اسقاطه علي الرغم من ان الطيب اردوغان أظهر بدوره استعدادا لايقل عن استعداد الحكم الاخواني في مصر لارغام الجماهير علي التراجع من الميادين. وستظهر الاسابيع – وربما الاشهر – القادمة اي الطرفين اقدر علي التغلب علي الآخر. وكتب الصحفي التركي ايسي تملكوران الذي يعمل في الصحافة الأمريكية "ان الشعب التركي قتل خوفه من السلطة ولهذا تنمو الاحتجاجات الشعبية … ان ما بدأ في ميدان باسطنبول قد انهي سنوات من الاحزان". لهذا يمكن التأكيد بان الايام والساعات القادمة ستكون حاسمة براي المراسلين الذين يغطون انباء الثورة او الانتفاضة التركية والذين يصفون مهمتهم في المدن التركية بانها تحولت من رصد حالة الاستقرار التركية الي رصد حالة عدم الاستقرار التركية. ان هؤلاء المراسلين يعتبرون ان مهمتهم الان اصبحت معرفة ما اذا كانت الاحداث الراهنة التي تجتاح المدن التركية ستؤدي الي اكبر خسارة لحكم الاخوان المسلمين في المنطقة بسقوط حكومة اردوغان. والامر المؤكد ان المراسلين من ابناء المنطقة وكذلك من البلدان الخارجية سيرصدون في الاسابيع القادمة التأثير المتبادل بين الحالة المصرية والحالة التركية لمعرفة ايهما تؤثر في الاخري واي النظامين يسقط قبل الاخر.