في حفل استقبال اقامه الرئيس التركي يوم الاثنين الماضي بمناسبة مرور 89 عاماً علي اعلان الجمهورية، لم يصدق الحاضرون وملايين الاتراك الذين تابعوا الحفل علي شاشات التلفزيون اعينهم وهم يرون قائد الجيش التركي يقف بجوار زوجتي الرئيس عبد الله جول ورئيس الوزراء رجب الطيب اردوغان وهما ترتديان الحجاب الاسلامي. وسر الدهشة يكمن في ان جنرالات تركيا كانوا دائما يرفضون التواجد في مكان واحد مع اي امرأة ترتدي الحجاب باعتباره رمزا لمحاولات اضفاء الطابع الديني علي الدولة العلمانية التركية التي اسسها كمال اتاتورك عام 1923 والتي يعتبر العسكريون انفسهم حراسا عليها. لذلك اعتبر الكثيرون هذا المشهد للعسكريين مع الحجاب اعلانا حاسما بنهاية سيطرة الجنرالات وغلبة التيار الديني الذي اصبح يسيطر علي كل مظاهر الحياة في البلاد, وهو ما عبر عنه طه اكيول الصحفي بجريدة "حريات" بقوله "الآن يمكن القول ان الجيش التركي انسحب رسمياً من السياسة التركية".. الحقيقة ان هذا التفسير ليس مبالغاً فيه، ففي عام 2007 حاول الجنرالات بشتي السبل منع عبد الله جول من الوصول للرئاسة لأن زوجته "خير النساء" ترتدي الحجاب مثلها في ذلك مثل امينة اردوغان زوجة رئيس الوزراء الحالي و اعتبر العسكريون انتشار الحجاب رمزاً لهزيمة العلمانية أمام التيار الاسلامي. . والواضح ان تركيا تمر بمرحلة شديدة الخطورة من الصراع الداخلي وهي تعد الآن دستوراً جديدا ليحل محل الدستور الذي وضعه العسكر عام 1980 حيث يسعي الاسلاميون لزيادة صلاحيات الرئيس التركي,رغم ان منصب رئيس الجمهورية الآن يعد شرفيا, وهو ما يثير الشكوك خاصة في ضوء اعلان اردوغان انه سيرشح نفسه في انتخابات الرئاسة القادمة. وما يعنينا في كل ذلك ان دول الربيع العربي تنبهر بالتجربة التركية كنموذج اسلامي ديموقراطي، ولكن يبدو ان الاسلاميين الاتراك بدأوا في الكشف عن حقيقة نواياهم تجاه الحريات والديموقراطية وهو ما ادي الي صراع بين قوي عديدة هي بالتحديد الاسلاميون والعلمانيون وانصار الدولة المدنية والعسكر.. نتيجة هذا الصراع لن تحدد مستقبل تركيا فقط بل ربما تشكل ملامح الشرق الاوسط كله نظراً لتعاظم الدور التركي في المنطقة والعلاقات القوية بين النظام الاسلامي التركي وبقية الاسلاميين في دول الربيع العربي وخاصة الاخوان المسلمين في مصر.. وبينما رحب الكثيرون بتقليص سلطات العسكر ، يؤكد البعض ان الصراع الحالي اظهر بوضوح مدي هشاشة الديموقراطية التركية خاصة مع ظهور مؤشرات جديدة تشير الي ان حزب العدالة والتنمية الاسلامي الحاكم يسير نحو الديكتاتورية والاستبداد بعد فترة حاول فيها ارتداء مسوح الحمل الديموقراطي الوديع.. فهناك بالفعل حملة لقمع المعارضة وقهر حرية التعبير والقاء الصحفيين في السجون لدرجة جعلت تركيا الان هي الدولة التي يتواجد في سجونها اكبر عدد من الصحفيين علي مستوي العالم.. هذا الوضع انعكس في مظاهر السخط والاستياء بالشارع التركي يوم الاحتفال بذكري اعلان جمهورية اتاتورك العلمانية. اندفع الالاف الي شوارع العاصمة انقرة واشتبكوا مع قوات الشرطة رغم قرار اردوغان بمنع المظاهرات بحجة ان تقارير الامن تتوقع لجوء المتظاهرين للعنف!! ولا شك ان تجربة تركيا قد نجحت في تحقيق منجزات اقتصادية ولكنها في نفس الوقت همشت دعاة العلمانية والدولة المدنية بل وبدأت ما يشبه عملية انتقام من العسكر الذين ابعدوا الاسلاميين عن السلطة واضطهدوهم لعشرات السنين. ففي اواخر سبتمبر الماضي تم الحكم بالسجن علي اكثر من 300 ضابط بتهمة التآمر للاطاحة بحكومة اردوغان المنتخبة واثارت هذه المحاكمة الكثير من الشكوك حول مدي استقلالية القضاء التركي ولكنها في جميع الاحوال قصمت ظهر العسكر حماة العلمانية ليصبح الباب مفتوحا امام كل طموحات بل واطماع التيار الديني التركي.