كان يجمع في تكوينه المعرفي بين التراث والحداثة، ولا يفرق بين الثقافة الرسمية والثقافة الشعبية، ويرفض التقوقع أو معاداة العالم، لأن العالمية لاتنتقص من الخصوصية القومية، بل تزيدها ثراء. وعدم التفريق بين ما هو رسمي وما هو شعبي يعني الأخذ بالوثائق التاريخية والنصوص الشعبية، الشفافية والمدونة، التي قد تكون أوفي في التعبير والتماس الحقيقة من كل الوثائق الرسمية. أما الخلافات المذهبية والصراعات الطبقية فيجب أن تتلاشي وتزول أمام مشاكل الوطن، حتي لا ينقطع الحوار بينها في البيت الكبير، وتتمزق خيوط التوافق والتواصل التي يفيد بعضها بعضا، دون أن تتخلي كل منها علي سياقها الخاص، أو تغير من منهج تفكيرها ورؤيتها. ومثل هذا الاتفاق بين الفصائل المختلفة ليس بعيد المنال، وإلا لما استطاعت حركات التحرر الوطني في العديد من الدول أن تجمع شعوبها علي مقاومة الاستعمار أو مناهضة الحرب ومنع استخدام الأسلحة النووية. ولم يصرفه الاهتمام بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية عن الدفاع عن كرامة المواطن باعتبارها من كرامة الوطن، ودليل تحضره. ولا تنمية حقيقية بعيدا عن معطيات الأوضاع الاقتصادية، أو في عزلة عن السياسة العالمية. ومع أنه كان يملك الشجاعة ان يقول بالصوت المرتفع مالا يجرؤ أحد علي الهمس به في الغرف المغلقة، مثل الحد في الدستور من سلطات رئيس الدولة، والنص فيه علي أن تكون الشريعتان الاسلامية والمسيحية وليس الاسلامية وحدها - هي المصدر الأساسي للتشريع، فإنه في قضايا أخري عديدة كان يترك الأبحاث النظرية وينخرط بكل كيانه في النشاط الاجتماعي والسياسي، مع الجموع العريضة للطلبة والعمال والمثقفين. أتحدث عن الكاتب والمفكر النابه محمد السيد سعيد في الذكري الأولي علي وفاته التي تقترب في العاشر من أكتوبر القادم. وأول ما يبدو هنا في هذه الشخصية العقلانية انها، رغم أيديولوجيتها اليسارية، لم تتجمد في إطار عقائدي ثابت، وكان بتفكيره الوضعي قادرا علي إعادة النظر في كل شيء إلا الايمان بالعدالة والديمقراطية والحرية. ولتوثيق هذه المبادئ اهتم محمد السيد سعيد في مقالاته وأبحاثه، بجذور الاستبداد الذي عانت منه مصر في تاريخها الطويل، وبمعالم النهضة منذ بداية القرن العشرين وبحق التعبير، وحكم القانون وحرية التنظيم. ورأي في المواثيق الدولية ما هو جدير بالاعتبار. كما اهتم في عروضه للظواهر والمشكلات بالتفاصيل في الإطار العام، وربط الشئون المحلية بالابعاد الاقليمية والدولية. وعلي الرغم من أن نشاط محمد السيد سعيد كان في الصحافة والحياة العامة، فإنه كان حريصا علي ألا يكون هذا النشاط المرتبط بالحركات الشعبية بمنأي عن الجامعة والدوائر العلمية والمنظمات الدولية، حتي يكتسب هذا النشاط الثقل الذي تميز به في مخاطبة القاعدة العريضة التي تقف فيها الجماعة المثقفة ويعني بها الجماعة العلمية، في مستوي الجمعيات والنقابات والمنظمات والروابط المدنية التي تنشر العلم والمعرفة، وتدافع عن الفقراء والمهمشين وحقوق الانسان. ولا سببيل إلي هذا الدفاع من دون الولاء إلي هذه الفئات الضعيفة وإلي هذه الحقوق، لا إلي أجهزة الأمن والنخب الحاكمة التي تتسم في العالم العربي بالسلطوية وتقييد الحريات، حرصا منها علي بقائها وعلي بقاء مصالحها الخاصة المرتبطة بهذا الجمود وبقفل باب الجدل والجمود وقفل باب الجدل يعتمد علي النقل والاتباع والتقليد وليس العقل والنقد والابداع وإثارة الأسئلة. وفي المقارنة بين رعاية الحقوق السياسية والمدنية، ورعاية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية رفض محمد السيد سعيد إرجاء الحقوق السياسية والمدنية التي تتمثل في الديمقراطية وهوالخطأ الفادح الذي وقعت فيه ثورة 1952، وأدي إلي فشلها في اقامة دولة مدنية تفصل بين السلطات، ويكون فيها للجهود الفردية مكانها المرتبط بالغايات الوطنية. ولأن الحرية الفردية لا تنفصل عن العدالة الاجتماعية تساوت أو توازنت لديه قيمة الفرد مع قيمة المجموع. ولكنه من ناحية مقابلة أبدي استياءه من النزعات الفردية التي نشأت بعد 1967، وتحولت في نهاية السبعينيات، في ظل تخلخل المؤسسات الاجتماعية والاقتصاد الطفيلي، الي طفيليات فردية لا اخلاقية في مجتمع استهلاكي. وعن العلاقة مع الغرب يري محمد السيد سعيد في ثلاثة مقالات نشرها في جريدة «الحياة» الدولية في 3، 4، 5 سبتمبر 1994 تحت عنوان «نهاية مثقف التحرر الوطني» انه لا جدوي من الصدام مع الغرب، ولا من التبعية له والقياس علي منواله، وإنه لا معادي لنهضة العالم الثالث عن إعادة البناء من الداخل بناء وطنيا في اتجاه حركة التاريخ، مع إدراك أبعاد الأوضاع العالمية في حالتها الراهنة.ولن يتحقق هذا البناء إلا بنمط جديد من الثقافة، وأساليب جديدة للتثقيف وانتاج الوعي، تخرج علي كل تقليد. ويولي محمد السيد سعيد المجتمع المدني مكانة أساسية في أداء أو ممارسة هذا المشروع الثقافي، وذلك بانتهاج استراتيجيات مستقلة تتوافر لها الأصالة، ويتحقق بها التقدم. لقد أراد محمد السيد سعيد لعالمنا أن يتخلص من كل ما يشوهه من نقص يماثل ما كنا عليه في عهد المماليك، تحل فيه المواطنة والتناسق والتسامح محل التنافر والعداء والتعصب، والحركة محل الركود، والجديد محل البالي. ويتطابق فيه المفهوم العملي مع المنطوق النظري. أراد محمد السيد سعيد في كلمات قليلة أن يعيد بناء العالم وفق شكل جديد للحضارة الانسانية، تنتفي فيه القطيعة الثقافية والمعرفية، ويصبح فيه سكان العالم أخوة في كوكب واحد. ويصعب علي من يكتب عن محمد السيد سعيد أن يغفل ما تعرض له في حياته من اعتقال أكثر من مرة، ومن تعذيب كاد يقضي عليه، ومن تضييق في مجال رزقه ونشاطه. غير انه تحمل كل هذا البلاء في صمت لم يتحالف مع السلطة، ولم تغب عنه أخطاؤها وقصورها في الوقت نفسه. ولم يعرض علي أحد الجراح التي نزلت به، إلي أن غادر هذا العالم، وقلوب المثقفين من كل التيارات السياسية، من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار، تحيط به في محنة المرض، وفي رحيله المتعجل الذي كان له وقع الضربة التي لا تحتمل، فقد فيها الوطن مثقفا نادر المثال، لفت نظر كل من عرفه أو قرأ له، بعمق فكره ودماثة خلقه. ولست أظن أن أرواح هذه الكوكبة المثقفة من ضحايا أوشهداء الرأي التي لم تملك مثل محمد السيد سعيد، سوي أفكارها واحلامها، ستهدأ في عليائها وتتوقف الارض عن الانين، الا اذا أعيد الاعتبار لهم ولأحلامهم المجهضة التي وقفوا حياتهم من أجلها.