رئيس تحرير ” المدي ” العراقية ( 1 ) عند انطلاق قناة الجزيرة القطرية ، عُدَّت من وجهة اعلامية وسياسية ، خرقاً صادماً ، يؤسس لعلاقة جديدة بين الشعوب العربية وحكامها ، لما توفرها من مساحة مفتوحة للرأي الآخر المقموع من النظام العربي الرسمي . وبسبب القهر والمصادرة المطلقة للحريات وتحكم الانظمة الشمولية الاستبدادية في العالم العربي ، لم تواجه المحطة والقيمون عليها بما عند اوساط سياسية وثقافية ناقدة ، من تحفظات وتساؤلات حول سياسة الجزيرة ونهجها والاهداف المرسومة لها ، ولم تكن تلك الملاحظات والتحفظات ، مجرد مُشاكسَة اعلامية او سياسية مغرضة وحاسدة . لقد كشفت قناة الجزيرة ، فجأة المستور من فضائح الانظمة العربية ، التي تستر عليها الاعلام الرسمي ، واظهرت الي العلن المطمور من مفاسدها وتعدياتها علي شعوبها ، وبددت مثل فقاعة ، خرافة حصانة حدودها ، واستعصاء عفة سلطتها علي الانتهاك ، واسرار اقبيتها وسجونها ووسائل تعذيبها من الافتضاح والتعري . وظلت الجزيرة ” القناة ” تنتشر في ارجاء العالم العربي ، وتتحول منذ الاشهر الاولي الي ظاهرة فريدة ، تقتحم الاسوار المنيعة ، وتَهد البني المترهلة ، المستبدة ، وتقوض شرعيتها الاخلاقية والشعبية ، وتستثير احزان الشعوب المنكوبة بحكامها ، وتكثف من اشجانها المطمورة . انها لم تكن مجرد قناة تلفزيونية في فضاء ظل مُحْكَم الاغلاق ، بل قذائف من نوع خاص ، تخترق الحدود ، وتتسرب الي البيوت والاندية ومهاجع الجنود والطلبة ، وتفك لهم بالصوت والصورة ، مشاهد سَبْيهم وتجريدهم من ارادتهم وانتزاع حناجرهم ، والتلاعب بمقدراتهم وتبديد ثرواتهم . والمفارقة العجيبة في ظاهرة ” قناة الجزيرة ” انها لم توفر يميناً ولا يساراً ، الا وتناوشت الذمم فيها ، وهتكت ما خفي في المخادع وما تواري خلف جدران المكاتب والدواوين . واصبح للجزيرة ، بحكم قدرة صنع الفضائح فيها ، وكشف المستور، حظوة دولة عظمي ، وبفضلها اصبحت ” قطر ” الجزيرة الملتمة علي نفسها ، كقطرة في محيط ، مساحة ممتدة ، مفتوحة علي كل فجٍ عميقٍ ، تتطاول حتي لا يتسع لها مكان . ( 2 ) لم يلتفت يومها احد او يتوقف ، عند تناقضات ظاهرة الجزيرة . ولا آثار الاهتمام ، المخفي من وظائفها واهدافها وفلسفتها ، كما لم يتمعن ، حتي من كان عارفاً ببواطن الامور ، في من يقف وراءها ويخطط لها ويرسم خطوطها ، ويستميل انحناءات خطوطها ، وهي تغوص في البحر تارة ، وتخرج مثل ألقٍ مزهوٍ بنفسه تارة أخري . لقد ظل كل ذلك مؤجلاً ، ومقيداً في سجلات مجهولٍ يتمنع ، يبدو احياناً كما لو انه يعتمر طاقية إخفاء .! لقد دوخت القناة الملوك والرؤساء العرب ، وحاروا بدنياهم ودينهم الذي جردتهم منه الجزيرة وبلغ الحنق ببعضهم حد الشكوي لدي الولي الاعظم وراء المحيط ، لعله يفك لهم اسرار حروف الجزيرة التي تغتسل كل يوم بالمياه الحارة لتستعيد عذريتها . ومع ان النازلة كانت أشد وقعاً علي زعماء التحرر الوطني وقادة دول الممانعة والصمود والتصدي ، فإن تعويذتهم ” التقدمية ” لعبت دور المسكّن ، ضد وباء القناة وما يحوم حولها من شبهات الاستعمار والصهيونية . وخلال الفترة الممتدة من لحظة اطلاقها ، حتي السابع من نيسان عام الفين وثلاثة ، واصلت قناة الجزيرة دورها المزدوج ، وهي تتقدم علي سُلَّم اولوياتها السياسية ، متشبثة بحصانتها ، الا في اوساط محدودة ، ضعيفة التأثير في مواجهة اتهامات ينال من صدقيتها ونظافة ذيلها . وفي خطٍ متوازٍ مع سقوط صدام حسين ، ودخول القوات الامريكية الي العراق واعلان احتلاله رسمياً بمباركة رسمية عربية ” كُلية ” ، بدأت الجزيرة القناة ، والجزيرة المشيخة ، دورها ” القومي ” ضد الولاياتالمتحدةالمحتلة ، وشنت حملة ” جهادية ” واسعة النطاق ضد العراقيين ، ومهدت عبر التمويل ، والاسناد المعنوي والاعلامي ، لغزو الاراضي العراقية من قبل قتلة تكفيريين وأفاقين من شتي البلاد العربية ، يتوشحون بلباس الجزيرة العربية ، ويتنكرون تحت لافتة ” المقاومة ” المتهرئة ، ويتمنطقون بالاحزمة الناسفة ، وهم يفجرون انفسهم وسط تجمعات العراقيين العُزل المسالمين ، النابذين للاحتلال ، المتفائلين بسقوط الطاغية . وفي الوقت الذي كانت فيه قناة ” الجزيرة ” تسجل جرائم الارهابيين ، وتبثها كمآثر جهادية ، كانت القوات الامريكية والمتعددة الجنسية تجدد حيويتها في ربوع الجزيرة لتدخل بأمان الي العراق ، تواصل مهامها الاحتلالية ، بعد ان انتهت مهامها العملياتية المنطلقة من قاعدتها العسكرية الاكبر في قطر . ولأول مرة ، انكشف الغطاء عن التناقض الحاد ، بين قطر ” الحاضنة ” للمركز القيادي العسكري والمخابراتي العملياتي للولايات المتحدةالامريكية في المنطقة ، والحليفة الاثيرة لها ولاسرائيل ، ودورها الجديد في تامين الدعم المالي والاعلامي واللوجيستي للجهاد ولامريكا في ذات الوقت . ( 3 ) ولم يقتصر التناقض علي مزدوجي ” الجهاد وأمريكا ” بل تعداهما الي طائفة من التناقضات العسيرة علي الهضم . فالمشيخة القطرية ، مدينة في حضورها للولايات المتحدة التي ترتبط بها بتحالف استراتيجي ، وصفها ذات مرة ، الشيخ حمد بن جاسم نائب ، رئيس الوزراء ، وزير الخارجية القطري ، بانها ” تثير حسد الملوك والرؤساء العرب ويسيلُ لعابهم ” ! وهو سبب عداوتهم في هجومهم علي دولة قطر . كما ان شيخ قطر الذي انقلب علي ابيه واغتصب السلطة منه ، يدينُ بفضل لإسرائيل عليه ، لا أقل من فضل ادارة المخابرات الامريكية ، لمدها يد العون اليه خفية ومساعدته في انجاح عملية الاغتصاب السياسي ، وتوفير الغطاء والحماية غير المرئية لمشيخته . واظهر تفجير القاعدة لبرجي التجارة الدولية في نيويورك عام 2001 ، تناقضاً سافراً ، بين ” تبعيتها ” لواشنطن وتحالفها مع اسرائيل ، وسياسة الجزيرة ” الحاضنة ” للاخوان المسلمين ومركزهم الدولي ، وانفرادها الاثير لتسجيلات بن لادن الجهادية وسبقها الاعلامي في بث وقائع عمليات القاعدة وانتحارييها في شتي اصقاع وامصار العالم . وبدت قطر المشيخة ” النانوية ” من حيث المساحة علي خارطة العالم ، كما لو انها تخوض معركة ” تحدٍ قومي” ولي اذرع مع الادارة الامريكية ، وهي الرابضة في احضان اقوي معسكر أمريكي في العالم خارج الولاياتالمتحدة ، لجهة تكنولوجيا اسلحتها المتطورة الضاربة ، وعُددها ، وعديد قواتها ، وكثافة نيرانها ، ولم تأبه للانتقادات اللاذعة التي وجِهَت لها من القيادات الأمريكية ، بل خاضت ضدها معركة ” كفالة حرية الاعلام الدولي ” ! . ودخلت في تدرج مدروس علي خط التنافس الاعلامي السياسي ، بدءاً من احتلال العراق مع ” جوهرة واشنطن ” CNN ” و ” CBC ” واخذت تتواجد علي خطوط النيران ، في كل حدثٍ وتفجيرٍ وعملية انتحار . وسجلت كاميراتها ، وقائع انتحارية و ” جهادية ” مع لحظة وقوعها ، مما كان يشي ، بتنسيق مع القائمين علي العمليات الارهابية ، وعلي الاخص القاعدة وامتداداتها . ( 4 ) وغرائب جزيرة قطر ” النانوية ” تتسع رقعتها السياسية ، لتكون لتؤمّنَ وفي الوقت نفسه ، حاضنة محميةً للشيخ القرضاوي ، امير مؤمني الاخوان المسلمين في العالم ، بجوار المعسكر الأمريكي العملاق ، ومكتب التنسيق الاسرائيلي !. وفي فصل سياسي غرائبي مثير ، تستضيف المشيخة وتُكرم اسرة المقبور صدام حسين ورموز نظامه من القيادات والكوادر البعثية ، وتضعهم تحت تصرف عرابَيها ، الأمريكي والاسرائيلي ، للاستفادة من خدماتهم في صولاتها ومعاركها في العالم العربي . دون ان تبخل بخدماتها ، لكل المعارضات ، سواء بالدعم المالي او بعقد المؤتمرات او الايواء ، او ما تراه مناسباً لتمكينها من بلوغ اهدافها . وبفعل دورها ، استحقت بجدارة لقب امبراطورية قطر ، وخرجت بذلك من واقعها ” النانوي ” . ( 5 ) لم يكن المشهد ليكتمل دون بزوغ الربيع العربي ، ودور مشيخة قطر ، في تحويلها الي خريف صيفي قائظٍ ومكّدر . فالحركة الشعبية التي انطلقت بمبادرة الشبيبة ، وتوسعت لتُخرِجَ الملايين من صمتها وتنخرط في مظاهرات مليونية في تونس ثم تمتد الي مصر وليبيا فَتُسْقِط انظمتها ورؤسائها ، اصطدمت بدخول قطر علي خطوط التكوين الهش الجديد ، وتضع كل امكاناتها لاجهاض الثورة ، وتمكين الاخوان المسلمين والسلفيين ، للاستيلاء علي السلطة فيها . وفي سياقٍ متصل ، بدأت المشيخة تتحرك سرياً ، بدعم اخوان مصر لتشكيل نواتاة اخوانية في بلدان خليجية ، وتعزيز دور التنظيمات التكفيرية الطائفية في سوريا ، واضفاء طابعٍ اخواني – قاعدي علي تشكيلات ” جبهة النصرة ” وغيرها من التنظيمات ” الجهادية ” الوافدة ، محولة انظار الرأي العام الحذر من تطورات الاوضاع في سورية والمنطقة وغلبة مسحة الاسلام السياسي عليها ، ومستفزة المكونات الملوَّعَة والقلقة من النتائج التي يمكن ان تترتب علي اي تغيير قادم ، يتشابه مع تدهور الحالة في مصر وتونس . ان تدخلها في سورية بشكل خاص ، ينعكس سلباً علي المعارضة الوطنية والقوي المناصرة لها داخلياً وعربياً ودولياً ، ويؤدي في الواقع العملي الي اضعافشها ومحاصرتها بشبهة الاسلام السياسي المتطرف ، مما يفضي الي اطالة معاناة الشعب السوري ويضّيق من حرية حركة القوي المناضلة لتحقيق التغيير الديمقراطي ، واقامة الدولة المدنية التعددية ، وتكريس التنوع المكوني في اطار الوحدة الوطنية . وفي كل اتجاهات تحركها ، تتبني مشيخة قطر ، وقناة الجزيرة نهجاً سافراً لإشاعة اجواء الفتنة الطائفية ، وحرف نزعات التغيير الوطني الديمقراطي اينما امكنها ذلك ، في هذا الاتجاه . وهذا ما حصده العراقيون بعد التغيير وحتي الان من تطاولها علي الارادة العراقية الشعبية المستنفرة ضد النهج والسياسة الطائفية ومحاصصاتها المقيتة . ولم يتوان شيخ قطر عن التلويح بمنع اقامة دورة الخليج الكروية في البصرة اذا لم يجر تغيير الحكومة وفقاً لما يشتهي ، لا بما يسعي العراقيون لتحقيقه ديمقراطياً . ( 6 ) امام كل هذه الوقائع وتناقضاتها ، يبرز اكثر من تساؤلٍ ، لِنَقُلْ انه مُحير ، مع انه ليس كذلك ، اذا ما توغلنا في عمق التركيبة القطرية الحاكمة ، وما يحيطُ بها . ومن بين التساؤلات المنطقية ، التي يجري تداولها ، ما يخص سر عدم احتراز وقلق مشيخة قطر من واقعها السياسي المجافي لسلوكها وتدخلاتها في محيطها العربي والاقليمي . فهي اولاً شبه دولة ، من حيث جمعها بين المشيخة ونصاب الدولة الحديثة . وهي في هذا التوصيف تفتقر لكل مظاهر الحياة السياسية المبنية علي ارادة سكان الجزيرة ، ولو بالحدود الدنيا لما تنطوي عليها الارادة من تمثيل ومشاركة في القرار وتصرف في الموارد وتعبيرٍ عن الرأي الاخر . فالجزيرة القطرية معفية كلياً من المساءلة عن الحريات الديمقراطية والانتخابات التشريعية الحقيقية والسلطات السيادية المستقلة ، خارج تمثيل وارادة وتصرف العائلة الحاكمة واضيق حاشية منتفعة حولها . ولكنها اذ تتجاهل حقائق تكوينها السياسي غير الشرعي ، اذا انطلقنا افتراضاً من شرعية قاعدة التوارث العائلي ، تتمادي في دعواتها للديمقراطية والمقاومة والجهاد ، وهذا ما يشكل العقيدة المرائية لقناة الجزيرة ، ولا تتنبه الي ان سلطتها القائمة مغتصبة من الوالد المنفي بانقلاب عسكري ، بدعمٍ من الموساد الاسرائيلي ” كما يشاع “. والتساؤل الاكثر اثارة في واقع الدولة القطرية ومشيختها ، يدور حول كيفية الجمع الايجابي بين نظامها الشمولي الخالي من اي نسمة ديمقراطية ، ومرابطاتها في بلدان الربيع العربي المُتَخَرِف بفضلها . وكيف امكنها توفير ” مساكنة ” آمنة ، بين الشيخ القرضاوي ، وقيادة القوات الأمريكية المركزية ” السنتكوم ” التي تولي ادارتها الجنرال فرانس ، اثناء غزو العراق ، ثم ابا زيد وبترايوس ؟ واين موقع مكتب التنسيق الاسرائيلي من مكتب شئون الارشاد العالمي الذي يتولاه الشيخ القرضاوي ؟ ( 7 ) يكتَبُ لقطر فَضلَ الريادة الاعلامية في العالم العربي ، بكسر ” الجزيرة ” للتابوات التي احاطت بالانظمة الشمولية ، وهدم الاسوار الافتراضية العازلة بين البلدان العربية ، كما لا ينسي لها فضلٌ علي اسرائيل لفتحها الفضاء السياسي العربي الاعلامي امام قيادتها والانفتاح علي واقعها ومساعدتها في انزياح الحساسيات المفرطة بالتعامل معها ومقاطعتها . ويكتب لها الفضل علي الولاياتالأمريكية ، لتأمين سلامة مقر قيادة ” السنتكوم ” من هجمات القاعدة والمنظمات الاسلامية المتطرفة والتعرض لمعسكرها الاخطر ، بضمانة بن لادن والقيادات المسلحة وتطمينات من الشيخ القرضاوي ، وهم يعبرون سلوكياً عن حرص شديد بالامتناع عن اي نشاط ارهابي داخل قطر ، لانهم يرون فيها ” ملاذهم الآمن ” وسندهم المكين ، وولي امرهم في المنعطفات ، والا كيف يستقيم تفسير هذا التناقض التناحري بين كل هذه المكونات المجتمعة في جزيرة تُحْسَب المسافة بين زواياها بمناظير المهندسين المساحين ؟ ُُيحسبُ لقطر انها تستطيع احتواء معارضاتٍ عربية تبحث عن تحقيق ذاتها ، وتثور علي استبداد انظمتها ، دون ان تلتفت الي واقع القطريين الذين يتحكم في مصائرهم وثرواتهم ، حفنة شيوخ وشيخة واحدة متنفذة . ويكتب لها ايضاً ، عنفوانها في فضح انتهاكات العسكريتارية الغربية ، وبفضل مشترياتها تُحَدِّث خزين الاسلحة والطائرات والدبابات الأمريكية الفتاكة كلما لزم ذلك ، وتشكل غِطاء قومياً لقاعدتها وتحركاتها في المنطقة . ويكتب لقطر ، تحولها من دولة عالم ثالثية ، الي دولة ” مانحة ” بما تهبه لمصر ، تعزيزاً لسلطة الاخوان المسلمين وما تقدمه من مشورة ” لأخونة الدولة العميقة ” المصرية ، والتسلل من خلال منحتها الي العصب الاقتصادي الاستراتيجي لها بالاستيلاء الشرعي علي قناة السويس ، لتستكمل بذلك عناصر هيبتها كامبراطورية ، وربما قيامها بدور الدولة العظمي . ومع تراجع الدور العربي لمصر ، تتقدم قطر الي صدارة المشهد العربي الفلسطيني ، لتقوم بدور الراعي والوسيط بين الفلسطينيين والاسرائيليين ، نظراً لحظوتها لدي القيادة في تل ابيب . ولكنها اذ تنهض بهذه ” المهمة القومية ً في العلن ، تتحرك من وراء الكواليس ، بالتنسيق مع الاخوان المسلمون ، حكام مصر الجدد ، لإقناع الولاياتالمتحدة ، بافضلية التعامل مع حماس ، بدلاً من السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير ، الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني . لقد امتدت اذرع مشيخة قطر ، لترسم خطوط التماس والفصل ، بين قوي الحراك السياسي في بلدان الربيع العربي ، وتساهم في تحديد حظوظ من يتبوأ المواقع القيادية فيها ، وبالتالي تقرر مصائرها وتوجهاتها ، او هكذا تسعي ، خفيةً أو علانية . وليس في ما تفعله حرج عليها ، ما دامت تلتزم باصول وقواعد اللعبة السياسية في ظل فراغٍ سياسي ، دون ممانعة او اعتراضٍ جدي ، وتحت سمع وبصر الجامعة العربية ، واحياناً بتفويض منها . ( 8 ) الي جانب ذلك كله ، بالوجهين ، لابد من الاقرار بان مشيخة قطر ، الطائفية حتي النخاع ، الموالية بفخر لأمريكا واسرائيل والاخوان المحسودة علي حظوتها ، المتعالية علي العرب كلهم ، ملوكاً ورؤساء ومشايخ ، يحسبُ لها التفاتها لسكان الجزيرة وتحقيق القدر المناسب من متطلبات تجسيد انسانيتهم ، من حيث تأمين المعاش ورغد العيش والاستقرار . ولا يهم بعد ذلك حسابات الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ، ف “ليس بالحرية وحدها يحي الانسان “! . ثم …. واحسرتاه ( 9 ) قد يتبادر الي الذهن ، ان هذا السياق في الدخول علي الواقع العربي وربيعه وتناقضاته ، محكومٌ هو الآخر بالتناقص ، اذ يتعرض لتدخلاتِ دولة تتطوع في الدفاع عن حرية شعوب تتحكم في مصائرها انظمة استبدادية ، بتطرفٍ وغلوٍ لا مثيل لهما . ومن واقع هذا التناقض ، يمكن اثارة كومة من التساؤلات عن واقعنا الطائفي ، وانحيازاتنا الطائفية خارج الحدود ، وقبولنا بالوصاية الطائفية ، مع مفارقة كوننا كشعبٍ ، لا حرمة لكراماتنا ، نعيش مستلبين ، بلا ماء صالح للشرب ، ونخَوّض في فيضانات امطارنا ، لان مدننا بلا مجاري صرفٍ صحي . نتعثر ببعضنا في ظلام شوارعنا وبيوتنا ، لاننا تعاشرنا، ونحن في القرن الواحد والعشرين مع عجز دولتنا عن انها عجز الطاقة الكهربائية لدولتنا النفطية . ومع اننا نمتلك اكبر احتياطي نفطي ومصادر لثروات متنوعة لم تستخرج من باطن الارض بعد ، نقبل بصمت مخزٍ ، بقاء الملايين من مواطنينا يعيشون ” شبه امواتٍ ” تحت خط الفقر . وفي الحد الفاصل بين موتهم وحياتهم المهينة للكرامة الانسانية ، يعتاشون علي زبالة لصوص الدولة ونهابيها . ودون مبالاة ، يموت اطفالنا من المرض وفقر الدم . ويضيع طلابنا وطالباتنا في مدارس ومعاهد وكليات ، بلا مناهج تنقلهم من عهود الجاهلية الاولي الي رحاب العلوم ومعارف العصر ، تعشعش في اروقتها ، اساطير الجن والخرافات وكتب الاستخارة وتلاميدنا الصغار يزدحمون في مدارس بلا سقوف تحميهم ، يخَوّضون في الاوحال ويرتجفون من البرد ، تمضي سنوات تعليمهم الابتدائي والمتوسط ، وقد تزاحمت في عقولهم ، التعارضات بين التلقين البليد وما تحويه مناهجها المقررة ، وما يشاهدونه ويطلعون عليه في وسائط التواصل الاجتماعي والثقافي ، ومن خلال الالعاب والترفيه المعرفي والتعليمي ، التي توفرها الشبكة العنكبوتية وبرامجها المتاحة . وفي الوقت الذي نقتل فيه من قبل الانتحاريين والارهابيين ، وتتزايد فيه عديد قواتنا الامنية والعسكرية والمخابراتية ، تستمر الفوضي الضاربة اطنابها في كل حدبٍ وصوب ، وتتضاعف اعداد العاطلين من الخريجين واصحاب الكفاءة ، تغيبهم البطالة الحقيقية والمقنعة ، وتجرفهم مسالك التشرد والضياع . وتظل رغم ذلك كله ، دولتنا لا دولة ، ومصيرنا معلقٌ في كف القدر والعفاريت ، وحيتان الفساد والتسلط . ورغم ان تعدادنا نفوسنا بلغ الاربعين مليوناً ، ومواردنا النفطية لوحدها تتراوح او تفوق المائة والعشرين ملياردولار ، فإن تسلسلنا في سلم الفساد ومستويات الفقر وانتهاك حقوق الانسان والحريات ، يحتل مراتب متقدمة علي جميع الامم المصرة علي التخلف بفضل حكامها ، وربما يقع في المسافة الفاصلة بين الصومال وابعد دويلة افريقية غير مرئية علي الخارطة العالمية ، متناهية الصغر والثروة .! ( 10 ) وبعد كل هذا ، وغيره مما لا يقال ، الا يحق لدولة قطر ، ان تتعالي علينا ، وتعبث في ملاعبنا ، وتعيرنا بالعيب الذي فينا ، وتجور علينا ، وهي تتوعدنا بحرمان ” رياضيينا ” بدورة كروية خليجية ، علي لسان الشيخ حمد ، اذا لم ترتدع حكومتنا الرشيدة ، وتستهدي بالمشيخة بدلاً من الرحمن .. اوليس من حق ” الجزيرة ” ان تَسخََرَ من تخلفنا وفساد ذمتنا ، ، ونحن نقف عاجزين امام حالتنا ، كبلدٍ عالم ثالثي ، نزداد املاقاً وفقراً وفساداً ، نغرق في الخلاف والاختلاف علي تعريف ومفهوم الطائفية والمحاصصة والقسمة الضيزي بين فرقاء حاكمينا ، ونظل ابعد ما نكون من عتبة الحداثة والتقدم والحضارة الانسانية التي بلغتا اوجها اممٌ وشعوب ، لا تمتلك خزائن النفط ، ولا الثروة البشرية والعمق الحضاري التاريخي ، ولا القدرة علي العطاء والصبر . مع ذلك ، لا شماتة ، ولا بأس من اوضاعنا المزرية وتدنيها ، ولا ضير في احوال حكومتنا ، اذ لابد من تغير الاوضاع والاحوال .. ولا بأس من حالة تخلفنا المؤقت عن ركب التقدم والحداثة والحضارة الانسانية ، التي بلغتها ، رغم كل ما قيل ، مشيخة قطر .. ولا بأس من كل ما نُعَير به من قبل الشيخ حمد ، من نهجنا السياسي الطائفي ، وعجزنا عن استكمال بناء دولتنا ، ومظاهر الخراب والتدهور وسوء الاحوال ، وقلة الحيلة ازاءها .. لا بأس من ذلك ، فقد جربنا العيش في اتونها ، ولنا قوة الارادة والتجربة علي التجاوز ، حيث يستعصي الحل. علي ان احوال الشعوب والامم تظل في حراكٍ وتبدلٍ دائم ، وليس بالربيع وحده تتفتح الورود وتتضوع بعطرها الحياة . واذا استطاع الربيع العربي المُجهَض ان يعصف بانظمة الاستبداد والتوارث الجمهوري ، فمن الحكمة تجنب الوقوع في افخاخ اوهام السلطة المستدامة وتداعياتها فالربيع الحقيقي الكسير والمُجهَضْ ، مؤجلٌ الي حينٍ ومرتجي .. واذا ما حل اوانه فلابد له من ان يتفتح عن موسم ٍ زاهر ، كما لم يكن عليه يوم تناوشته معاول التخريب والاغتصاب ، واذ ذاك لاسبيل لاستثناء دولٍ ولا مشايخ ، من نسائمه وعبيره .. ومن كثرة تفاعل المشيخة القطرية مع الربيع العربي ، فقد بات العشق يلمهما علي بعض ، ومن العشق ما قتل ..! لقد احتفت جزيرة قطر ، من شدة ولعها بالغرائب والاساطير ، ب ” صندوق بندورا ” .. وشياطين بندورا ، تترقب لحظة تقوم قيامتها بتدبير فاعلٍ غشيم ، او هاوٍ لكشف المستور ..!