كان التناقض دائما سمة مميزة لسلوك الدول الغربية الامبريالية في سياساتهم وتصرفاتهم ازاء بلدان العالم الثالث التي سعوا الي السيطرة عليها ونهب ثرواتها اوالافادة من مواقعها الاستراتيجية، ولكن التناقض لم يبلغ في اي مرحلة ماضية ما يبلغه الان. وتعطي فرنسا مثلا صارخا في هذا التناقض هذه الايام. ولكن التناقض لن يقف عند حدود السياسات الفرنسية. فالدلائل تشير الي ان الولاياتالمتحدة تسير في الطريق نفسه، وان المساعدة اتية في كل الاحوال من بريطانيا ومن بلدان الخليج العربية وخاصة السعودية والاماراتالمتحدة وقطر ومن البحرين. لقد بدأت فرنسا حربا ساخنة ودموية ومدمرة داخل مالي ضد الجهاديين الاسلاميين وتمكنت في اول غاراتها الجوية من ان تثبت قدرتها علي القتل باغتيال نحو مائة من هؤلاء الاسلاميين الذين بدأوا رحلة سيطرة علي مالي. وليس باستطاعة المحلل او المعلق – ايا كان موقفه من هؤلاء الجهاديين الاسلاميين – الا ان يلاحظ التناقض بين موقف فرنسا العدائي الصارخ ضدهم في مالي وموقفها الداعم المؤيد بالمال والسلاح لهؤلاء الجهاديين الاسلاميين في سوريا. لقد كانت فرنسا من اوائل الدول الغربية التي سعت الي مساعدة الاسلاميين من اجناس وبلدان مختلفة عندما بدأ نشاطهم المناوئ للنظام الحاكم في سوريا ولم تلبث ان تبعتها الولاياتالمتحدة وبريطانيا وهولندا ثم لم نلبث ان تبينا ان بلدان الخليج العربية تؤدي دورا داعما بالمال والسلاح لهذا الفصيل بهدف تقويض النظام الحاكم في سوريا. وقد بدا – في البدايات الاولي لهذا الدعم – ان هذا الدعم بالمال والسلاح سيمكن الجهاديين الاسلاميين من اسقاط النظام الحاكم في سوريا والقضاء عليه في غضون اسابيع. ولم تلبث هذه الاسابيع ان امتدت وامتدت لتصبح اشهرا ومضت الاشهر دون ان يتمكن الجهاديون الاسلاميون من اسقاط النظام الحاكم في سوريا. ومضي في الحقيقة اكثر من 22 شهرا علي الحرب الدموية المتواصلة التي يغذيها الدعم الغربي والعربي في سوريا بالمال والسلاح دون تدخل مباشر من هؤلاء ودون ان تتمكن قوي التنظيمات الجهادية المتطرفة من اسقاط النظام السوري. واصبح الناطقون بلسان الدول الغربية والعربية الداعمة للجهاديين الاسلاميين في سوريا يترددون كثيرا قبل ان يقرروا تحديد وقت او حد زمني اقصي لسقوط النظام الحاكم في سوريا، والحرب في سوريا لا تزال مستمرة بكل ما لها من قدرة دموية وتدميرية والدعم مستمر من الداعمين بلا توقف ولا تبدو في الافق نهاية للصراع. لكن لم تلبث افريقيا ان اغرت حكام فرنسا – وليس شعبها- بالتدخل العسكري المباشر ضد الجهاديين الاسلاميين في مالي. وتبين بعد ايام قليلة ان حرب مالي لا تكتفي بالتدخل الفرنسي وان الولاياتالمتحدة تبدي استعدادها، بل تستعد بالفعل، للتدخل في مالي بالجيوش والطائرات والاسلحة الثقيلة علي غرار ما تفعل فرنسا. ولم تلبث بلدان خليجية عربية – كانت البادئة بينها هي الامارات العربية المتحدة – ان اعلنت استعدادها للتدخل – التدخل العسكري – في مالي دون ان يتضح باي حال اذا كان للعرب مصلحة ما في هذا التدخل. دعم من الخليج لقد سعي الرئيس الفرنسي فرانسوا اولاند للحصول علي دعم دول الخليج للعملية العسكرية الفرنسية في مالي، بعد ساعات قليلة من حصول فرنسا علي تفويض من مجلس الامن الدولي يدعم عملياتها العسكرية ضد الجهاديين الاسلاميين في مالي. فقد أعلن الرئيس الفرنسي اولاند وهو يزور دولة الامارات العربية المتحدة – بالتحديد في قاعدة عسكرية فرنسية في ابو ظبي – ان القوات الفرنسية تمكنت في غاراتها الاولي داخل مالي من اصابة اهدافها وان فرنسا ستستمر في نشر قواتها باعداد اكبر في مالي “حتي يمكن تسليم السلطة في مالي الي الافريقيين في اسرع وقت ممكن”. وفي الوقت نفسه اعلن وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس الذي يرافق الرئيس اولاند في زيارة اليوم الواحد للامارات انه واثق من ان دول الخليج ستساعد ايضا في حملة مالي سواء بالمال او بالمعدات. واضاف ان “وجود القوات الفرنسية في هذه الدولة الافريقية ذات الغالبية المسلمة سيحبط محاولات تنظيم القاعدة لتجنيد افراد في المنطقة”. كما قال وزير الخارجية الفرنسي ان العمليات العسكرية الفرنسية في مالي ستستغرق اسابيع. الامر الذي يذكر بتصريحات المسئولين الغربيين عن استمرار المساعدات للجهاديين الاسلاميين في سوريا لمدة اسابيع، ولكنها امتدت لاثنين وعشرين شهرا ولا تزال تمتد. لا مكان للقاعدة ولم يتردد وزير داخلية فرنسا – في الوقت نفسه – مانويل فالس في الاشارة الي سوريا وهو يؤكد ان الاجهزة الامنية الفرنسية تراقب الاشخاص والمواطنين الذين يرغبون في السفر الي كل من سوريا وافغانستان ومنطقة الساحل الافريقي. ولم يكلف وزير الداخلية الفرنسة نفسه بان يشرح مغزي هذا التناقض بين الدور الفرنسي والغربي والخليجي في سوريا ودور هؤلاء في مالي وافغانستان والساحل الافريقي. وكذلك احجم وزير الدفاع الامريكي ليون بانيتا عن التطرق الي هذا التناقض عندما ادلي بدلوه في قضية مالي. لقد صرح بانيتا في واشنطن التزام الولاياتالمتحدة بان القاعدة لن تجد اي مكان للاختباء. واضاف انه يجري محادثات مع وزير الدفاع الفرنسي جان ايف دولوريان بشأن المساعدات التي تحتاجها فرنسا من الولاياتالمتحدة. وأضاف ان وزارة الدفاع الامريكية تبحث بالفعل تقديم المساعدة في ثلاثة مجالات منها الدعم اللوجستي والمخابراتي وقدرات النقل الجوي الي فرنسا في مالي. في الوقت نفسه – في لندن – ذكرت صحيفة “ديلي تلجراف” البريطانية ان بريطانيا قد ترسل قوات من جيشها لمساعدة ما اسمته قوات التدخل الاوروبي وقوات مالي في التصدي لتقدم الجماعات المتشددة. واوضحت الصحيفة ان وزراء بريطانيين اكدوا ان بلادهم ملتزمة بمساعدة بعثة من الاتحاد الاوروبي لتدريب قوات مالي وستقوم بارسال خمسمائة من القوات الاوروروبية الي مالي في غضون اسابيع. وكان من الطبيعي بعد كل هذه التطورات باتجاه التدخل الغربي في مالي ان يطلق الجهاديون الاسلاميون في مالي تهديدات بانهم سيردون بضرب عمق فرنسا ردا علي عملياتها العسكرية التي بدأتها في مالي ضد الجماعات الاسلامية المسيطرة علي شمال مالي. معارضة فرنسية الامر الجدير بالذكر هو ان رئيس الوزراء الفرنسي الاسبق دومنيك دو فيلبان شن حملة نقد حادة ضد قرار الرئيس الفرنسي اولاند بالقيام بعملية تدخل عسكرية ضد الجهاديين في مالي. واعرب دو فيلبان عن دهشته من عجز القيادة الفرنسية الجديدة عن تعلم درس التجارب الماضية للتدخل العسكري في أفغانستان والعراق وليبيا. ان رئيس الوزراء الفرنسي الاسبق لم يتنبه الي ان فرنسا تدعم عمليات الجهاديين الاسلاميين ضد النظام الحاكم في فرنسا فلم يذكر سوريا ضمن ادانته للتدخل الفرنسي في مالي. ولكنه قال ان سياسة التدخل العسكري باتت – بشكل عام – “لا تجدي نفعا في الحفاظ علي مصالح الاطراف التي تمارس هذا التدخل او مصالح الانظمة ، فسرعان ما ينقلب الامر الي فوضي عارمة.” في الوقت نفسه اكدت وكالة اسوشيتدبرس الأمريكية للانباء ان القوات العسكرية الأمريكية يمكن ان تستدرج الي القتال الحامي الوطيس في البلد الافريقي مالي حيث يدور نشاط ارهابي ساخن علي غرار ما يجري في كثير من بلدان العالم. وقالت الوكالة الأمريكية ان المتطرفين الذين يرتبطون بتنظيم القاعدة هم الذين ينشطون الان في مالي في الشمال والشرق. وكما لاحظنا فان المسئولين الأمريكيين لم يستبعدوا احتمال التدخل العسكري الأمريكي في مالي. اما لماذا لا يلاحظ اي من المسئولين او الكتاب الغربيين التناقض بين مواقف حكوماتهم التي تدعم الارهابيين ضد النظام السوري وتحارب الارهابيين ضد انظمة الحكم الاخري في افريقيا كما سبق ان تدخلت في ليبيا، فان الامر لا ينطوي علي لغز انما الحقيقة ان دول الغرب – ومعها بلدان الخليج العربية – تعمل من اجل تكريس ودعم الوجود الامبريالي الغربي مجددا في بلدان العالم الثالث. وهي تدرك انها لا تستطيع ان تضمن استمرار وجودها كنظم حاكمة الا في وجود القوي الامبريالية ذات القدرة العسكرية الفائقة. وتثبت سوريا بهذا التناقض الصارخ انها تستعصي علي التدخل الغربي وان الهدف فيها لا يتجاوز حدود اشاعة الدمار وسفك الدماء، فربما ياتي التدخل الغربي والعربي المباشر بعد ذلك.