يا جدعان مش گده.. عيب! يقف المرء في ذهول وهو يتابع الصور التي تنقلها أجهزة التلفزة حول الحرب الدائرة بين المحامين والقضاة.. لشغل الناس عن قضاياها الوطنية!. علي أيامنا.. وعلي وجه التحديد في 6 يونيو سنة 1950 عقدت محكمة جنح بندر المنيا الوطنية جلستها برئاسة حضرة عبدالحليم بك سمهان «القاضي» وبحضور حضرة عبدالعزيز بك أبوغدير «وكيل النيابة» للنظر في القضية المرفوعة ضد محمد حسن محمد.. صاحب فندق ومقيم ببندر المنيا. حيث إن النيابة العامة اتهمت محمد حسن محمد بأنه في ليلة 2 يونيو سنة 1950 بدائرة بندر المنيا.. قام بإهانة وسب علنا هيئتين نظاميتين هما النيابة العامة والقضاء بأن تفوه بصوت مرتفع في صالة فندقه موجها لحضرة الأستاذ السيد بك أحمد عضو النيابة العامة العبارات الآتية: «كل وكلاء النيابة علي جزمتي من أصغرهم لأكبرهم.. وأنا ما يهمنيش منكم ولا من القضاء بتاعكم الوسخ.. النيابة مالهاش قيمة عندي.. وهي تحت جزمتي»!. ثانيا: سب علنا حضرة الأستاذ السيد بك أحمد في المكان السابق، وبصوت مرتفع سبا مخدشا للشرف والاعتبار بأن قال له: «انتم فاكرين نفسكم إيه.. يا سفلة.. يا قلالات الأدب.. يا منحطين.. انت يا واد عايز تستولي علي الأود «الحجرات» بالقوة والله لأوريك». وبسؤال المجني عليه.. قرر أنه عند عودته إلي الفندق.. ولما دخل ردهته، وهم بأخذ مفتاح غرفته التي يقيم بها من لوحة معلقة بالردهة.. أقبل عليه المتهم ووجه له عبارات سب وإهانة منها: اسمع يا جدع.. انتوا بتحسبوا الدنيا فوضي.. يا قليل الأدب.. يا سافل.. يا منحط.. واستمر يردد مثل تلك العبارات بضع دقائق بصوت مرتفع. وأن سبب الحادث هو رغبة المجني عليه في حجز ما يستغله زملاؤه المنتدبون خارج الدائرة لمن يأتي محلهم.. علي غير إرادة إدارة الفندق.. وتغيظ المتهم من ذلك. وقال المجني عليه إن حسن أفندي المناوي.. شهد الوقائع الأخيرة، وبسؤال حسن أفندي المناوي ضابط مباحث بندر المنيا.. قرر أنه عندما كان يصعد سلم الفندق سمع صوتا عاليا لم يتبين كنه ألفاظه ولا عباراته وعندما سأل المجني عليه قال له إن صاحب الفندق قال له «يا سافل يا قليل الأدب». ولم تأخذ المحكمة بشهادة كل من.. عبدالعزيز محمد علي وأنور حسين الأعسر وأنطون جورجي.. حيث إنهم يعملون لدي المتهم. كل ذلك لا يهم. المهم.. هي حيثيات الحكم.. التي ركزت علي ركن العلانية.. التي لا تهمنا في هذه السطور.. وعلي عنصر إهانة هيئة نظامية.. هي النيابة العامة.. وهو العنصر الذي يهمنا.. هذه الأيام.. ونحن في يونيو 2010 أي بعد 60 سنة.. مما جري في النيابة 1950. تقول الحيثيات: إن العبارة التي تفوه بها المتهم وهي «أنتم وكلاء النيابة علي جزمتي» لا شك أنها تحمل في طياتها معني الإهانة لهيئة نظامية.. وهي هيئة النيابة العامة.. إذ عرفت محكمة النقض الإهانة بأنها «كل قول أو فعل يحكم العرف بأن فيه ازدراء وحطا من الكرامة في أعين الناس».. وأراد المتهم أن يهين وكلاء النيابة.. وأن يرميهم بقلة الشأن والحقارة والنزول في المرتبة، والتجرد من السلطان والاحترام والعجز عن دفع ما يشين.. والضعف والذلة والمسكنة.. الأمر الذي يتعلق بالخدمة العامة.. ويشين سمعة وكلاء النيابة بين الناس. واستمرت حيثيات الحكم في الإشارة لفداحة الجرم الذي ارتكبه المتهم بإهانة النيابة العامة.. واسترشدت في ذلك بآراء الفقيه الفرنسي بواتفان والفقيه المصري أحمد بك أمين.. في أن إهانة رموز الأمة التي يستند إليها المجتمع في أمنه وسلامته وحسن سلوكياته.. تؤدي إلي الفوضي.. والضرب بالقوانين والنظام العام عرض الحائط.. وتفقد الهيئات النظامية هيبتها. ويلاحظ القارئ لهذه الحيثيات أنها تجاوزت الخلاف بين صاحب الفندق وأحد زبائنه إلي حد توجيه رسائل بالغة الأهمية.. إلي الاحترام الذي يتعين علي المواطنين الالتزام بقواعده عند مخاطبة الأشخاص الذين يمثلون سلطان الدولة ويعبرون عن هيبتها.. حتي وهم خارج مكاتبهم. ومعني الكلام أن للموظف العام.. رسالة اجتماعية.. فالمحامي أو وكيل النيابة أو المدرس أو ضابط الشرطة.. أو القاضي إلخ له وظيفة اجتماعية إلي جانب وظيفته الرسمية.. يتعين عليه أن يمثلها في محيطه. المحامي.. له دور اجتماعي في محيط معارفه وجيرانه.. باعتباره المدافع عن الحقوق. والمدرس له دور اجتماعي.. خارج المدرسة.. باعتباره النموذج في الخلق وحماية الفضيلة. ووكيل النيابة له دور اجتماعي.. خارج أسوار عمله.. وخارج هيلمان السلطة.. وينبغي أن تكون سلوكياته وكل أفراد أسرته.. هي سلوكيات يعرف الحق.. وينهي عن المنكر. هكذا.. كانت الرسالة التي جاءت في حيثيات الحكم الذي أصدرته محكمة جنح بندر المنيا برئاسة القاضي الفاضل عبدالحليم بك سمهان في 6 يونيو سنة 1950. ولذلك يقف المرء في ذهول وهو يتابع الصور التي تنقلها أجهزة التلفزة وتدخل بيوت الملايين من بسطاء هذه الأمة.. حول واقعة اعتداء اثنين من المحامين علي مدير نيابة طنطا في مكتبه أثناء تأدية عمله وإهانته وسبه.. وإتلاف الغرفة التي تتصدرها صورة الرئيس حسني مبارك.. رئيس الجمهورية. ثم تداعيات الواقعة المؤسفة وقيام عشرة آلاف محام.. هم من نخبة هذه الأمة.. بمحاصرة محكمة جنح طنطا.. واضطرار القاضي الذي أصدر حكمه بحبس المحامين المعتدين خمس سنوات للهروب من الأبواب الخلفية. ثم تضامن نقابة المحامين مع المعتدين.. وإعلان الإضراب العام المفتوح. ثم إعلان مجلس نقابة المحامين أنه في حالة انعقاد دائم. ثم تهديد عدد من المحامين بإحراق مبني محكمة جنح طنطا. ثم قيام الحكومة بإعداد خطة أمنية لتأمين مجمع المحاكم تحسبا لقيام مجموعة من «النخبة» التي تدافع عن العدل.. وتلقت تعليمها المجاني في كليات الحقوق.. علي نفقة البسطاء.. الذين يقفون في طوابير الطابونة للحصول علي كسرة خبز.. بإحراق المحاكم التي بنيت بأموال ودماء وعرق البسطاء.. الذين سيدفعون مرة أخري نفقات إعادة بناء المحاكم.. التي أحرقها بعض رجال القانون الذين تلقوا تعليمهم وحصلوا علي مؤهلات الجامعة.. بأموال شعب تبلغ نسبة الأمية فيه إلي ما يزيد علي 70%. يقف البسطاء الذين حرمتهم ظروفهم من التعليم.. ويتناوب أطفالهم تناول الوجبات المتواضعة.. في ذهول وهم يرون الآلاف من النخبة التي تلقت تعليمها المجاني.. وهي تحاول الحصول علي حقوقها بأعمال لا تليق بهم ولا تليق بمهنتهم.. ولا تليق.. بكل تأكيد.. بمصر الغالية التي كنا نهتف باسمها ونردد: «أقسمت باسمك يا بلادي.. فاسلمي.. أقسمت أن أحمي حماك.. وأفتدي»!. نحن لسنا طرفا.. في هذا النزاع الذي اندلع كالحرب الأهلية بين المحامين والقضاة. فلا نحن مع القضاة.. ولا نحن من المحامين. ولكننا مع الوطن الذي تجري علي أرضه هذه الممارسات.. خارج إطار القوانين.. وخارج أسوار دور العدالة التي لا تقل في قدسيتها عن دور العبادة.. لأن الله سبحانه وتعالي يحب أن يسود العدل بين مخلوقاته، وأنزل كتبه السماوية ليسود العدل بين البشر.. وتختفي فيه أساليب البلطجة والابتزاز. كان البسطاء من أمثالنا يتوقعون أن تقف النخبة.. والمحامون في مقدمتهم «كما كانوا دائما»، موقف المدافعين عن الإصلاح.. والمطالبون بتغيير الحكام الذين تعفنوا فوق مقاعد السلطة.. والمحاربون للفساد والرشوة وتزوير الانتخابات.. وإصلاح التعليم.. ومكافحة البلطجة.. بيد أن ما حدث طوال الأسبوع الماضي.. يكشف.. ربما للمرة الأولي بمثل هذا الوضوح.. أن الفساد قد استشري إلي حد قيام عشرة آلاف محام.. بالنزول للشوارع من أجل الثأر والانتقام من أبناء الجناح الآخر للعدالة.. وهو جناح القضاء الذي ينبغي أن تنحني أمامه الرءوس احتراما وتبجيلا. ففي الوقت الذي تقف فيه مصر.. وسط العديد من الأزمات الداخلية والخارجية.. نجد أن طائفة.. كانت علي مر التاريخ.. في مقدمة الحركات الوطنية.. تتعارك.. ويخرج الآلاف من أبنائها للشوارع.. ليس للمطالبة بالتغيير والديمقراطية ومكافحة الفساد.. ومحاكمة اللصوص الذين هربوا أموال الشعب لبنوك العالم.. وإنما من أجل قضية عائلية بين أسرة العدالة كان يتعين حلها بالقانون واللوائح والأعراف.. وليس بإبداء أساليب البلطجة والتهديد بإحراق المحاكم. وفي ضوء هذه الحالة.. لم يعد من الغريب أن يشهر اثنان من التلاميذ بالإسكندرية السيوف لإرهاب المراقبين للامتحانات.. أو أن يطعن أحد التلاميذ زميله بالمطواة في لجنة الامتحان بمدرسة بسيون الصناعية بالغربية لأنه رفض مساعدته في الإجابة وتغشيشه.. أو أن ينتشر العنف والتحرش في كل أرجاء المعمورة. احترام القانون يبدأ من فوق.. ومن القائمين علي تطبيقه.. إذ ليس من المعقول أن يخرق رجال القضاء.. القانون.. ويحترمه غيرهم من الوزراء ونواب الحزب السرمدي في مجلس الشوري.