يبدو أن السياسة التركية تجاه سورية هي الأكثر ارتباكاً من السياسات الأخري، سواء منها الإقليمية أم الدولية، وذلك لأن هناك جملة من التعقيدات والمصاعب والظروف الواقعية والشروط الإقليمية والدولية التي تفرض علي تركيا موقفاً بعينه، وتكبل السياسة التركية في أن تعمل بحرية، بسبب الظروف الإقليمية والدولية القائمة سواء منها حول سورية أم حول المنطقة، مما أدي في النهاية إلي تعطيل الدور التركي وشل حركته ووضع سياسته في إطار ردود الفعل، رغم أن تطور الأحداث وطبيعة علاقة الجوار مع سورية وزيادة عدد الممرات التي تستفيد منها المعارضة السورية المسلحة والقادمة من تركيا، ورغم أن تركيا أصبحت رئة تتنفس منها المعارضة السورية المسلحة وغير المسلحة وأعني بها اللاجئين المدنيين إلي تركيا. تواجه تركيا صعوبات كبيرة جداً في تعاملها مع الشأن السوري، فهي أولاً مضطرة لاستقبال مئات آلاف السوريين منهم ما يقارب المائة ألف لاجئ، والباقي مقيمون بوثائق رسمية، وتركيا هي المعبر لتسليح الجيش الحر، وهي محاذية لمنطقة واسعة (تسيطرعليها المعارضة السورية) وتنتظر إجراءات لتكون منطقة محررة تأوي الثوار واللاجئين والمعارضة، وتبدأ تطبيق خطة من شأنها توسيع هذه المنطقة والزحف نحو مناطق سورية أخري، وفي الوقت نفسه ورغم أن تركيا حشدت جيوشها علي الطرف الآخر من الحدود، لكنها لا تستطيع القيام بأي عمل حربي ضد الجيش السوري النظامي لالتزامها بسياسة حلف شمال الأطلسي، التي لم تأذن لها بالحرب، وفي الوقت نفسه تقيم المعارضة السورية الرئيسية في تركيا وتعقد اجتماعاتها وتجري اتصالاتها مع الآخرين، وتتلقي تركيا دعم بعض الدول العربية وخاصة الخليجية منها، لتستمر طرفاً رئيساً في مواجهة النظام السوري وفي دعم الجيش السوري الحر وفئات المعارضة الأخري. إن هذه السياسة الداعمة للمعارضة السورية من دون تحفظ التي تطبقها تركيا، لها من طرف آخر روابط وكوابح جدية، ذلك أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، وبالتالي لا تستطيع اتخاذ أي قرار منفرد، وإنما تخضع قراراتها كلياً إلي سياسة الحلف وخاصة لقائدته الولاياتالمتحدةالأمريكية، وعلي ذلك فرغم التهديدات العديدة الكبيرة التي أطلقها أردوغان ضد النظام السوري، فلم يستطع أن ينفذ منها شيئاً في حيز الواقع، لأن الولاياتالمتحدة لم تسمح له بتنفيذ أي شيء خارج سياساتها، والأمر نفسه ينطبق علي الفرنسيين والبريطانيين وعلي بلدان الخليج أيضاً، وفي الخلاصة بقي الحماس التركي والتصريحات النارية التي أطلقها أردوغان مجرد صرخات وصيحات في فراغ، لأن السياسة التركية مكبلة بقرار الأطلسي أي الأمريكي في نهاية المطاف. يبدو أن السياسة الأمريكية لم تتخذ بصورة نهائية رغم التصريحات النارية لمسؤوليها قراراً بإسقاط النظام السوري، ريثما يدمر السوريون بلدهم جيشاً واقتصاداً وبنية تحتية، مما ينزع الخوف الإسرائيلي من سورية لعشرين سنة قادمة ويزيد الموقف الأمريكي غموضاً وتعثراً حتي الانتخابات الأمريكية القادمة، حيث لم يتأكد الديمقراطيون بعد من فوزهم فيها. وفي ضوء ذلك رأي الأتراك والعرب أن لا يسلحوا الجيش السوري الحر بأسلحة مضادة للطائرات والدبابات، وأبقوه علي السلاح الفردي، وبالتالي سيتأجل نصر المعارضة السورية إذا كان هناك نصر ريثما ينتهي التدمير الذاتي لسورية اقتصاداً وعمراناً وقوة عسكرية، وبعد ذلك يصبح رحيل النظام لا يحمل أي نتائج سلبية تجاه إسرائيل أو غيرها، ويمكن أن تأذن السياسة الأمريكية بتغييره. في ضوء ذلك من المتوقع أن يبقي الصراع العسكري مؤجلاً حتي ظهور نتائج الانتخابات الأمريكية واستقرار الإدارة الجديدة (سواء كانت ديمقراطية أم جمهورية) وبدء تنفيذ سياستها النهائية تجاه سورية و(البلدان العربية). هكذا إذن تدرك جميع الأطراف المعنية مباشرة بالأزمة السورية (وخاصة الولاياتالمتحدة) أن الحل ليس اليوم أوغداً، وأنه بانتظار الحسم الأمريكي. وبالتالي فجميع الأطراف تلعب بالوقت الضائع، وتنتظر الموافقة الأمريكية بإسقاط النظام، الأوروبيون والعرب يدركون أن القرار الرئيس هو قرار أمريكي وهم ينتظرونه لأنهم من دونه لا يلوون علي شيء.. إذنً، إن الأزمة السورية كما يبدو هي الآن منحية جانباً، وتطبخ علي نار هادئة، ولا أحد من ذوي العلاقة خارج سورية يستطيع دفعها إلي الأمام أو الإسراع بإيجاد حل لها ما دامت الولاياتالمتحدة مشغولة بخياراتها الانتخابية، وعليه من الصعب القول بأن حل الأزمة السورية قريب أو في متناول اليد، لأن ذلك يرتبط بالسياسة الأمريكية المقبلة أولاً، ثم بالسياسة الأوروبية والعربية بعد ذلك، ومن الطبيعي أن تأخذ الولاياتالمتحدة المصالح الإسرائيلية بعين الاعتبار، خاصة ما يتعلق منها بتدمير سورية جيشاً وبنية تحتية واقتصاداً ونسيجاً اجتماعياً موحداً ومتيناً، بحيث تطمئن إسرائيل، وتقتنع بأنه لايوجد خطر سوري محتمل لعشرات السنين القادمة.