توقف الدكتور قدري حفني في مقال العدد الماضي أمام ظاهرة الجهر بارتكاب جرائم التعذيب والتفاخر بها، كما تحدث عن خبرته الشخصية كأحد الذين تعرضوا للتعذيب. وهو يواصل في هذا المقال الثاني قراءته المعمقة سياسيا واجتماعيا وسيكولوجيا للظاهرة، ويحلل ما سماه القبول الجماهيري للتعذيب. لعله من اللافت، وإن كان مفهوما أن جميع ممارسات التعذيب مهما كانت بشاعتها تتم تحت غطاء فكري بالغ الجاذبية والرقي بل انها تتم في كثير من الأحيان مغلفة بغلاف ديني أو وطني. وتعد عملية التغليف هذه أمرا لا غني عنه لتحقيق عدد من الأهداف علي رأسها ضمان الحد الأدني المطلوب من حماس الجلادين لممارسة فظائعهم فضلا عن محاولة كسب رأي عام مساند لتلك الجرائم، وهو ما حدث بالفعل في أحيان كثيرة حيث كان التعذيب في نظر الجماهير في العصور الوسطي يبدو أمراً "عادياً" وكان يطلقون عليه تسمية أنيقة هي "الاستجواب القضائي". وقد احتاج الأمر دهورا طويلة نزلت خلالها رسالات من السماء واندلعت ثورات علي الأرض ونشبت حروب ضروس وأقيمت حضارات وإمبراطوريات كبري واندثرت أخري ، احتاج الأمر كل ذلك من أجل إقرار حقوق الإنسان وحرياته ، ومن ضمنها حقه في احترام كرامته الإنسانية وسلامة جسده وقواه العقلية والنفسية، ورغم ذلك فما زلنا نشهد -كما أشرنا- الكثير من مظاهر التعبير عن حفاوة بل و"سعادة" الجماهير بمشاهدة أو بمعرفة حجم العذاب الذي لحق بالخونة وبالمعارضين المارقين. سلوك مرفوض ولعله من اللافت للنظر أنه لا محل في القانون لتجريم ذلك الاستمتاع وتلك السعادة بمشاهدة وقائع التعذيب والقتل، رغم أنها فيما نري تعد الظاهرة الأولي بالاهتمام، بل التجريم؛ فانتشار ممارسة التعذيب لا يمكن أن يتراجع بشكل أساسي إلا إذا أصبح سلوكا مرفوضا بحق وبعمق ومن دون استثناء من القطاع الغالب من أبناء المجتمع. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بتجفيف منابع ذلك القبول الدفين أو المعلن لممارسة التعذيب بكشف زيف الشعارات والمبررات الدينية أو الوطنية أو الاجتماعية لتعذيب الآخرين مهما كانت جرائمهم الوطنية أو الأخلاقية أو الدينية. إن عملية إعداد وتهيئة الجماهير للقبول بممارسة التعذيب إنما تستند إلي ثقافة تقوم علي ركنين: تقديس العنف، وتقديس الطاعة، ولا سبيل لمواجهة حقيقية وفعالة لهذه الجريمة دون محاولة القضاء علي جذورها، وخلخلة أركانها، وهي ليست بالمحاولة السهلة. صناعة تقديس العنف يعد التعذيب نمطا خاصا من أنماط العنف، ويستعمل تعبير "التعذيب" عادة لوصف اي عملية تنزل آلاما جسدية او نفسية بإنسان ما وبصورة متعمدة ومنظمة كوسيلة لاستخراج معلومات او الحصول علي اعتراف او لغرض التخويف والترعيب او كشكل من اشكال العقوبة او وسيلة للسيطرة علي مجموعة معينة تشكل خطرا علي السلطة المركزية. ويستعمل التعذيب في كثير من الأحيان لفرض مجموعة من القيم والمعتقدات التي تعتبرها الجهة القائمة بالتعذيب قيما أخلاقية، وتشير المادة الأولي من اتفاقية مناهضة التعذيب إلي أن التعذيب هو "الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم علي التمييز أيا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية". نخلص من ذلك إلي أن غالبية أنواع العنف ومنها ممارسة التعذيب تعد من أنواع السلوك المكتسب، ومن ثم فإنه لا يمكن التنبؤ باستعداد الفرد لممارسة التعذيب إلا في حدود ضيقة لا تتعدي اكتشاف المصابين بمرض السادية sadism5 ، وعلي أي حال فإن هؤلاء المرضي لا يمثلون سوي نسبة ضئيلة جدا من السكان وممن يمارسون التعذيب أيضا. إن اكتساب الفرد القدرة علي ممارسة التعذيب يتم من خلال عملية تدريب اجتماعي يغرس قيمة تقديس العنف بتأكيد أن الشخص القوي مرهوب الجانب القادر علي إلحاق الأذي بالآخرين هو الشخص "المحترم" في مقابل أن الشخص الهادئ المسالم الذي يلتزم بالقانون ويلجأ إليه للشكوي ورد الاعتداء شخص ضعيف لا يستحق الاحترام. ولكن يبقي سؤال: لماذا تجد ثقافة العنف دعما وتشجيعا لا تجده ثقافة السلام والاحتكام للقانون وإدانة التعذيب؟ تؤكد دراسات علم النفس الإعلامي أن رواج سلعة معينة لا يتوقف علي مجرد الإعلان عن وجودها وعرض مزاياها بل إن الرواج الأمثل إنما يتحقق بقيام ثقافة مساندة للسلعة تضمن لها دوام وتصاعد الطلب عليها. ويتطلب خلق مثل تلك الثقافة تشكيلا لخريطة الوعي بما تتضمنه من معايير وقيم واتجاهات بحيث يصبح الطلب علي تلك السلعة جزءا لا يتجزأ من نسيج تلك الثقافة. يصدق ذلك علي صناعة السياحة بقدر صدقه علي صناعة السينما والسجائر وجراحات التجميل وكذلك الأسلحة. ثقافة الحرب و لعلنا لا نضيف جديدا إذا ما ذكرنا أن صناعة السلاح تعد من أضخم مجالات الصناعة وأكثرها ربحية, ولذلك فمن الطبيعي أن تسعي تلك الصناعة لدعم الثقافة التي تساندها وتساعد علي ترويجها, وأن تجند لنشر تلك الثقافة -أي ثقافة الحرب- تراثا ضخما من مختلف العلوم الإنسانية علي رأسها الإعلام وعلم النفس بل التاريخ أحيانا. و لقد أصدر الصحفي البريطاني جدوين باروز عام 2002 كتابا مهما بعنوان "صناعة السلاح" استخدم فيه تعبير "المجموعة القذرة" مشيرا إلي قائمة الدول التي تتصدر صناعة وتصدير السلاح؛ وتتربع الولاياتالمتحدة علي رأسها, تليها روسيا, ثم فرنسا, ثم بريطانيا, وألمانيا ، ثم هولندا, حيث تستأثر تلك الدول الست بتصدير 85% من السلاح في العالم وتحتل إسرائيل المرتبة الثانية عشرة في تلك القائمة, ومن المثير للانتباه أن الدول الأربع التي تتصدر تلك القائمة أعضاء دائمة في مجلس الأمن المسئول عن "السلام العالمي"، وأن الدول العربية تتصدر قائمة مستوردي تلك الأسلحة. تقديس العنف وهكذا شهدنا وما زلنا نشهد عبر سنوات طوال آلاف الأفلام والكتب ودواوين الشعر, بل والدراسات "العلمية" التي تصب جميعا في تقديس العنف واعتباره جوهر الطبيعة الإنسانية والسبيل الأوحد للحصول علي الكرامة والاحترام والحفاظ علي الحقوق، ومن ثم لم يعد أمام الدول والجماعات بل الأفراد مهرب من غواية التهيؤ لممارسة العنف، ثم ممارسته ما أمكن ذلك. و لقد امتدت تلك الغواية لتضرب بجذورها في عمليات التنشئة الاجتماعية التي مارسناها ونمارسها كأمهات وأباء، كمربين وتربويين، كإعلاميين ومسئولين، نمارسها في بيوتنا، ومدارسنا، ومساجدنا وكنائسنا ونوادينا ومكاتبنا. تمارسها صحافتنا واذاعتنا وتليفزيوننا. نمارسها جميعاً دون استثناء. ومن لم يستطع منا ممارستها بالفعل مارسها بالقول، ومن لم يستطع القول مارسها بالصمت ولعله الأشد خطراً. و قد أدت بنا تلك الممارسة إلي حيث لا يجد المرء أمامه لمواجهة مواقف الحياة إلا واحداً من سبيلين لا ثالث لهما: إما التصدي بالعنف لإزالة ما يحول ببينه وبين ما يريد، ذلك إذا ما استطاع؛ فإذا ما لم يستطع ممارسة دور الجلاد وكان الآخر أقوي من امكاناته، لم يعد أمامه إلا السبيل الآخر وهو الاستسلام دون شروط وتقبل دور الضحية المستضعفة. وهو في الحالتين ملتزم بالطاعة والانصياع: الطاعة شرط لإتقان التدريب علي العنف، وهي أمر مفروغ من حتميته في حالة الاستسلام. تقديس الطاعة يلعب الاستعداد المفرط للطاعة - أو ما يطلق عليه تعبير "المسايرة"- حتي فيما يخالف القانون دورا مهما في إقدام الجلادين علي ممارسة التعذيب، فهم يستجيبون لأوامر رؤسائهم استجابة تتسم بقدر كبير من الخضوع، ولا يناقشون هذه الأوامر ولايفكرون فيها، بل يطيعون رؤساءهم طاعة عمياء وينفذون أوامرهم بالتعذيب دون تردد، وغالبا ما يكون هؤلاء المسايرون من الذين يسهل إقناعهم واستهواؤهم والإيحاء لهم بأن ما يفعلونه فيه مصلحة للبلد أو للبشرية أو لقضية ما. لقد اهتم علماء النفس الاجتماعي بمحاولة التماس تفسير لسلوك أولئك الذين يقدمون علي التعذيب بالتنقيب في تاريخ حياتهم وما مر بهم من أحداث، ولكنهم لم يعثروا علي شيء له دلالة، فالعديد من الأفراد الذين كانوا يبدون عاديين بل أقرب إلي الطيبة، قد يصدر عنهم أفظع أنواع السلوك الوحشي في مواقف بعينها، وخلص العلماء إلي أن الأمر إنما هو أمر مكتسب يجري الإعداد له والتدريب عليه من خلال المؤسسات الاجتماعية.