قبل أن أمسك بالقلم، تساءلت: تري أنلتقي تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان لنجدد إدانتنا لجرائم التعذيب فحسب؟ وبدا لي -رغم ضرورة وأهمية بل قدسية تلك الإدانة- أنني لا أستطيع أن أقدم جديدا، فأمامي العديد من المواثيق الدولية والإقليمية والوطنية والدينية التي تجرم التعذيب، وأمامي آلاف الصفحات التي تسجل جرائم التعذيب، وشهادات الضحايا، ومحاولات الجلادين التبرؤ مما اقترفوه، ومحاولات من أصدروا الأوامر للتنصل من مشاركتهم في تلك الجرائم. تري أي جديد أستطيع أن أقدمه بعد ذلك كله؟ وكدت أتوقف لولا أن خطر لي أمران: الأمرالأول أنني شخصيا كنت يوما -بل أياما- واحدا من ضحايا التعذيب، ولعل "شهادة من الداخل" رغم أنها شهادة مجروحة، قد تكون ذات معني في مثل هذا السياق. و الأمر الثاني أنني من واقع تخصصي في علم النفس السياسي، واستغراقي في قضايا الصراع العربي الاسرائيلي وتوابعه من صراع عربي عربي وفلسطيني فلسطيني، استوقفتني ظاهرة فريدة تمثلت في انتقال التعذيب من الأقبية المظلمة، والزنزانات الرطبة، ومحاولات التخفي خلف الأسوار العالية، والسعي الحثيث إلي إنكار اقتراف تلك الجرائم بل استنكارها والتبرؤ منها، إلي تعذيب أشد بشاعة يحرص مرتكبوه علي اقتراف جرائمهم في وضح النهار، وعوضا عن تسجيلها رغما عنهم تلصصا، وتسريبها خلسة، يقوم الجلادون أنفسهم بتسجيل ما ارتكبوه وإذاعته علنا لمن لم تتح لهم مشاهدته، متفاخرين بما اقترفوه باعتباره بطولات تنم عن مدي تمسكهم بالمبادئ الأخلاقية والوطنية بل والدينية الرفيعة. تعذيب جماهيري استوقفني كذلك نوع منتشر من التعذيب "الخاص". تعذيب يمارسه من يقدرون عليه حيال من يستطيعون تعذيبهم من خدم وأطفال ونساء ومنافسين إلي آخر قائمة طويلة من المستهدفين، ولا يجد مقترفو هذا النوع من التعذيب أي غضاضة في الاعتراف بما يقترفونه لخلصائهم باعتباره لا يعدو أن يكون تأديبا أو تقويما بل ولا يجدون غضاضة في اعتبار القوانين التي تدين هذا النوع من التعذيب تدخلا في الخصوصيات بل قد يعتبرونها دعوة للانحلال والتسيب وخروجا علي صحيح الدين. إنها أنواع من "التعذيب الجماهيري" إذا ما صح مثل هذا التعبير. تعذيب تم إعداد الجماهير للحفاوة به والتشجيع عليه بل وممارسته ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا، وأظنه الأشد خطورة والأكثر تدميرا إذا ما قورن بذلك "التعذيب الحكومي" التقليدي الذي ألفناه رغم أن "السلطة" بمعناها الواسع تعد عاملا مشتركا في أنواع التعذيب جميعا باعتبار أن الجلاد أيا كانت صفته يعد ممثلا لسلطة ما بالنسبة للضحية. خبرة ذاتية كانت أذهان أبناء جيلي تنصرف عادة عند الحديث عن التعذيب إلي قيام ممثلي النظام الحاكم بتعذيب المعتقلين السياسيين من الإخوان المسلمين والشيوعيين، وكانت ردود أنصار النظام آنذاك تتراوح بين الإنكار التام لوقوع شيء من هذا القبيل، أو التقليل من حجمه واعتباره من قبيل التجاوزات الاستثنائية، أو التماس الأعذار لمن يقدمون عليه مضطرين لحماية "أمن الوطن" أو "صحيح الدين".و قد كان مستحيلا آنذاك اللجوء إلي القضاء للنظر في جرائم التعذيب باعتبارها -أي تلك الجرائم- من أعمال السيادة، إلي أن تضمن الدستور الحالي نصا يقضي باعتبار "كل اعتداء علي الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوي الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم،وتكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء. ( مادة 57 ) لقد تنقلت بين معتقلات القلعة وأوردي ليمان أبو زعبل والفيوم والسجن الحربي، حيث تعددت ألوان التعذيب الفردي والجماعي بين الضرب والجلد وتكسير الحجارة إلي التجويع والعزل والتهديد فضلا عن الإهانات اللفظية، وظل الحرمان من الزيارات مستمرا في كل الأحوال. لقد كتب عن ذلك الكثيرون وليس لدي مزيد من التفاصيل التي يمكن إضافتها. ما يعنيني في هذا المقام الإشارة إلي أن التعذيب في تلك المعسكرات خاصة في أوردي ليمان أبو زعبل كان أشبه بالتعذيب الذي كنت قد قرأت عنه في معسكرات هتلر النازية2 فيما عدا أفران الغاز الشهيرة. كان تعذيبا لا يستهدف الحصول علي اعترافات أو معلومات، بل مجرد سحق شخصية الضحية. يجري وفق خطة مبرمجة تحول بين الضحية وأي توقعات بحيث لا يعرف تحديدا متي ستكون الضربة القادمة ولا علي أي جزء من جسده ستقع ولا ما هو مبررها المباشر. انعدام التوقعات ومن ثم انعدام المعني. عملية مبرمجة مخططة كما لو كنا حيال تجربة معملية لخلق حالة متطرفة من حالات "الاغتراب"، وقد انهار البعض بالفعل وسقطوا في هوة الاضطراب العقلي الصريح. كان النظام في الأوردي شأن بقية معسكرات التعذيب يقضي بحظر تبادل الحديث بين المعتقلين وبعضهم البعض خاصة بعد إغلاق العنابر عليهم مع نهاية "العمل" وهو التعبير الرسمي عن القيام بتكسير البازلت في الجبل، واعتاد الجميع الحديث همسا، فإذا ما ارتفع الهمس ولو قليلا، كانت صيحة الحارس "امنع الغاغة3" تعد نذيرا بأن عقابا جماعيا إضافيا يتهدد نزلاء هذا العنبر في الصباح، ورغم ذلك فقد ظل التواصل الهامس مستمرا حتي خلال "العمل". لا خصوصية لا خصوصية في السجون ومعسكرات التعذيب، وإذا كان انتهاك الخصوصية يعد جريمة يعاقب عليها القانون فإن انتفاء تلك الخصوصية بالنسبة لنزلاء السجون والمعتقلات تصبح هي القاعدة التي تعرض من يخرج عليها بعقاب إضافي. في معسكر التعذيب يكون المرء مرئيا طوال الليل والنهار، ولعلي لم أحس بصدق المقولة الوجودية الشهيرة "الجحيم في عيون الآخرين" قدر ما أحسست بصدقها في تلك الأيام. ثمة عيون ترقبك دائما. لا تتلصص ولا تتخفي بل تمارس "حقها" في اقتحامك جهارا نهارا آناء الليل وأطراف النهار. حتي حين يغلق عليك باب "العنبر" فإن ثمة ثقب بالباب تغطيه من الخارج "سقاطة" معدنية متحركة تتيح للحارس الجلاد أن يرفعها وقت يشاء ليطل علي ضحاياه. إنها "العين ذات الجفن المعدنية"4. ولا يعد السجن "الانفرادي" خروجا علي هذه القاعدة، فالسجين في هذه الحالة لا يكون منفردا رغم أنه يكون معزولا عن الجماعة؛ فالجلاد المراقب معه دائما وبتركيز أكبر، فليس ثمة ما يشغله سواه. الفارق هو عزلة السجين عن رفاقه. إن إطلاق تعبير "التأديب" علي زنازين السجن الانفرادي ليس مصادفة. إنه أحد الأساليب المفضلة لدي الجلادين لتأديب الضحية بحرمانه من الإئتناس بجماعة الانتماء حتي خلال خضوع تلك الجماعة للتعذيب الجماعي، ويزداد التأثير بطبيعة الحال إذا ما كان السجن الانفرادي مصحوبا بتعذيب انفرادي أيضا حيث يفتقد الضحية الاحساس بأن ثمة من يشاركونه العذاب مما قد يزيد من تحمله من خلال ثقافة جماعية يتساند من خلالها الضحايا. ولقد مررت بخبرة الحبس الانفرادي أكثر من مرة. أما عن الجلادين، لقد شهدت معسكرات التعذيب المصرية ما عرف بين المعتقلين باسم "فرقة اللواء همت" التي كانت تضم جنودا وضباطا وصف ضباط من العاملين في السجون يتخصصون في التعذيب الجماعي أو ما يطلق عليه تعبير "التكديرة". سمعت ممن سبقوني إلي الأوردي وبالتالي كانوا أول من استقبلتهم فرقة اللواء همت أن الجلادين قد انهالوا عليهم بالعصي وهم يصرخون طالبين منهم سب آل البيت، مكررين آخر خبرة لهم وكانت تعذيب المعتقلين من الإخوان المسلمين؛ وحين صرخ فيهم قائدهم منبها "دول شيوعيين كفرة" تحولت الصرخات فورا إلي "قولوا لا إله إلا الله يا كفرة". إنهم لم يتلقوا أي نوع من التهيئة الفكرية كما هو الحال مثلا بالنسبة للجلادين في الدول العقائدية، كل ما تلقوه تدريبا متقان علي التفاني في الطاعة، وتنفيذ الأوامر فورا دون تفكير.