إعلام: عطل في اتصالات مروحية عسكرية يعطل هبوط الطائرات في واشنطن    عاصفة تهز سوق العملات الرقمية.. أكثر من 100 مليار دولار تتبخر في ساعات    كشف قدرات كتائب القسام، ضابط إسرائيلي يرد على تصريح نتنياهو عن "الصنادل والنعال"    أوكرانيا.. 15 صاروخا من طراز "كاليبر" تتجه صوب العاصمة كييف    نشرة أخبار ال«توك شو» من المصري اليوم.. مرتضى منصور يعلن توليه قضية الطفل أدهم.. عمرو أديب يستعرض مكالمة مزعجة على الهواء    الدفاعات الجوية الروسية تدمر 8 مسيرات أوكرانية فوق أجواء مقاطعة تفير    مصرع ميكانيكي سقط من الطابق الخامس هربًا من الديون بسوهاج    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 25-5-2025.. كم بلغ سعر طن حديد عز؟    سعر سبيكة الذهب اليوم الأحد 25-5-2025 بعد الارتفاع الكبير.. «بكام سبائك ال5 جرام؟»    مي عبد الحميد: تنفيذ أكثر من 54 ألف وحدة إسكان أخضر.. ونستهدف خفض الطاقة والانبعاثات    نموذج امتحان الاستاتيكا الصف الثالث الثانوي الأزهري 2025 بنظام البوكليت    خبير اللوائح: أزمة القمة ستسمر في المحكمة الرياضية الدولية    القبض على 3 شباب ألقوا صديقهم في بيارة صرف صحي ب15 مايو    الكشف الطبي على 570 مواطنًا خلال اليوم الأول للقافلة الطبية    مستشفى دمياط التخصصي: حالة الطفلة ريتال في تحسن ملحوظ    نجاح أول جراحة «ليزاروف» في مستشفى اليوم الواحد برأس البر    نائب إندونيسي يشيد بالتقدم الروسي في محطات الطاقة النووية وتقنيات الطاقة المتجددة    قانون العمل الجديد من أجل الاستدامة| مؤتمر عمالي يرسم ملامح المستقبل بمصر.. اليوم    بعد فيديو اعتداء طفل المرور على زميله بالمقطم.. قرارات عاجلة للنيابة    الجيش الإيراني يؤكد التزامه بحماية وحدة أراضي البلاد وأمنها    رئيس الكونغو الديمقراطية السابق يواجه محاكمة    إلغوا مكالمات التسويق العقاري.. عمرو أديب لمسؤولي تنظيم الاتصالات:«انتو مش علشان تخدوا قرشين تنكدوا علينا» (فيديو)    ياسمين رضا تترك بصمتها في مهرجان كان بإطلالات عالمية.. صور    هل يجوز شراء الأضحية بالتقسيط.. دار الإفتاء توضح    هل يتنازل "مستقبل وطن" عن الأغلبية لصالح "الجبهة الوطنية" في البرلمان المقبل؟.. الخولي يجيب    قطع المياه عن هذه المناطق بالقاهرة لمدة 8 ساعات.. تعرف على التفاصيل    استشهاد 5 فلسطينيين فى غارة للاحتلال على دير البلح    "دفاع الشيوخ": قانون الانتخابات يرسخ مبادئ الجمهورية الجديدة بتمثيل كافة فئات المجتمع    المخرج الإيراني جعفر بناهي يحصد السعفة الذهبية.. القائمة الكاملة لجوائز مهرجان كان    «هذه فلسفة إطلالاتي».. ياسمين صبري تكشف سر أناقتها في مهرجان كان (فيديو)    قساوسة ويهود في منزل الشيخ محمد رفعت (3)    النائب حسام الخولي: تقسيم الدوائر الانتخابية تستهدف التمثيل العادل للسكان    "العربية للسياحة" تكشف تفاصيل اختيار العلمين الجديدة عاصمة المصايف العربية    "القومي للمرأة" يهنئ وزيرة البيئة لاختيارها أمينة تنفيذية لإتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر    زيلينسكي: المرحلة الثالثة من تبادل أسرى الحرب ستُنفذ الأحد    "إكس" تعود للعمل بعد انقطاعات في الخدمة امتدت لساعات    «أضرارها تفوق السجائر العادية».. وزارة الصحة تحذر من استخدام «الأيكوس»    «الداخلية» تكشف تفاصيل حادث انفجار المنيا: أنبوبة بوتاجاز السبب    رحلة "سفاح المعمورة".. 4 سنوات من جرائم قتل موكليه وزوجته حتى المحاكمة    بيسيرو: رحيلي عن الزمالك لم يكن لأسباب فنية    "بعد إعلان رحيله".. مودريتش يكشف موقفه من المشاركة في كأس العالم للأندية مع ريال مدريد    بعد غياب 8 مواسم.. موعد أول مباراة لمحمود تريزيجيه مع الأهلي    حلم السداسية مستمر.. باريس سان جيرمان بطل كأس فرنسا    ميلان يختتم موسمه بفوز ثمين على مونزا بثنائية نظيفة في الدوري الإيطالي    نائب رئيس الوزراء الأسبق: العدالة لا تعني استخدام «مسطرة واحدة» مع كل حالات الإيجار القديم    نسرين طافش بإطلالة صيفية وجوري بكر جريئة.. لقطات نجوم الفن خلال 24 ساعة    استقرار مادي وفرص للسفر.. حظ برج القوس اليوم 25 مايو    ناجي الشهابي: الانتخابات البرلمانية المقبلة عرس انتخابي ديمقراطي    وأنفقوا في سبيل الله.. معانٍ رائعة للآية الكريمة يوضحها أ.د. سلامة داود رئيس جامعة الأزهر    رمضان عبد المعز: التقوى هي سر السعادة.. وبالصبر والتقوى تُلين الحديد    «أحدهما مثل الصحف».. بيسيرو يكشف عن الفارق بين الأهلي والزمالك    ميدو: الزمالك يمر بمرحلة تاريخية.. وسنعيد هيكلة قطاع كرة القدم    موجة حر شديدة تضرب القاهرة الكبرى.. انفراجة مرتقبة منتصف الأسبوع    الصديق الخائن، أمن الأقصر يكشف تفاصيل مقتل سائق تريلا لسرقة 6000 جنيه    للحفاظ على كفاءته ومظهره العام.. خطوات بسيطة لتنظيف البوتجاز بأقل تكلفة    أسماء المقبولين في مسابقة 30 ألف معلم فصل المرحلة الثالثة.. جميع المحافظات    اغتنم فضلها العظيم.. أفضل الأدعية والأعمال في عشر ذي الحجة ويوم عرفة 2025    فتاوى الحج.. ما حكم استعمال المحرم للكريمات أثناء الإحرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التعذيب وثقافة المجتمع.. خبرة شخصية(1-4)
نشر في الأهالي يوم 27 - 05 - 2010

قبل أن أمسك بالقلم، تساءلت: تري أنلتقي تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان لنجدد إدانتنا لجرائم التعذيب فحسب؟ وبدا لي -رغم ضرورة وأهمية بل قدسية تلك الإدانة- أنني لا أستطيع أن أقدم جديدا، فأمامي
العديد من المواثيق الدولية والإقليمية والوطنية والدينية التي تجرم التعذيب، وأمامي آلاف الصفحات التي تسجل جرائم التعذيب، وشهادات الضحايا، ومحاولات الجلادين التبرؤ مما اقترفوه، ومحاولات من أصدروا الأوامر للتنصل من مشاركتهم في تلك الجرائم. تري أي جديد أستطيع أن أقدمه بعد ذلك كله؟ وكدت أتوقف لولا أن خطر لي أمران: الأمرالأول أنني شخصيا كنت يوما -بل أياما- واحدا من ضحايا التعذيب، ولعل "شهادة من الداخل" رغم أنها شهادة مجروحة، قد تكون ذات معني في مثل هذا السياق.
و الأمر الثاني أنني من واقع تخصصي في علم النفس السياسي، واستغراقي في قضايا الصراع العربي الاسرائيلي وتوابعه من صراع عربي عربي وفلسطيني فلسطيني، استوقفتني ظاهرة فريدة تمثلت في انتقال التعذيب من الأقبية المظلمة، والزنزانات الرطبة، ومحاولات التخفي خلف الأسوار العالية، والسعي الحثيث إلي إنكار اقتراف تلك الجرائم بل استنكارها والتبرؤ منها، إلي تعذيب أشد بشاعة يحرص مرتكبوه علي اقتراف جرائمهم في وضح النهار، وعوضا عن تسجيلها رغما عنهم تلصصا، وتسريبها خلسة، يقوم الجلادون أنفسهم بتسجيل ما ارتكبوه وإذاعته علنا لمن لم تتح لهم مشاهدته، متفاخرين بما اقترفوه باعتباره بطولات تنم عن مدي تمسكهم بالمبادئ الأخلاقية والوطنية بل والدينية الرفيعة.
تعذيب جماهيري
استوقفني كذلك نوع منتشر من التعذيب "الخاص". تعذيب يمارسه من يقدرون عليه حيال من يستطيعون تعذيبهم من خدم وأطفال ونساء ومنافسين إلي آخر قائمة طويلة من المستهدفين، ولا يجد مقترفو هذا النوع من التعذيب أي غضاضة في الاعتراف بما يقترفونه لخلصائهم باعتباره لا يعدو أن يكون تأديبا أو تقويما بل ولا يجدون غضاضة في اعتبار القوانين التي تدين هذا النوع من التعذيب تدخلا في الخصوصيات بل قد يعتبرونها دعوة للانحلال والتسيب وخروجا علي صحيح الدين. إنها أنواع من "التعذيب الجماهيري" إذا ما صح مثل هذا التعبير. تعذيب تم إعداد الجماهير للحفاوة به والتشجيع عليه بل وممارسته ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا، وأظنه الأشد خطورة والأكثر تدميرا إذا ما قورن بذلك "التعذيب الحكومي" التقليدي الذي ألفناه رغم أن "السلطة" بمعناها الواسع تعد عاملا مشتركا في أنواع التعذيب جميعا باعتبار أن الجلاد أيا كانت صفته يعد ممثلا لسلطة ما بالنسبة للضحية.
خبرة ذاتية
كانت أذهان أبناء جيلي تنصرف عادة عند الحديث عن التعذيب إلي قيام ممثلي النظام الحاكم بتعذيب المعتقلين السياسيين من الإخوان المسلمين والشيوعيين، وكانت ردود أنصار النظام آنذاك تتراوح بين الإنكار التام لوقوع شيء من هذا القبيل، أو التقليل من حجمه واعتباره من قبيل التجاوزات الاستثنائية، أو التماس الأعذار لمن يقدمون عليه مضطرين لحماية "أمن الوطن" أو "صحيح الدين".و قد كان مستحيلا آنذاك اللجوء إلي القضاء للنظر في جرائم التعذيب باعتبارها -أي تلك الجرائم- من أعمال السيادة، إلي أن تضمن الدستور الحالي نصا يقضي باعتبار "كل اعتداء علي الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوي الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم،وتكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء. ( مادة 57 )
لقد تنقلت بين معتقلات القلعة وأوردي ليمان أبو زعبل والفيوم والسجن الحربي، حيث تعددت ألوان التعذيب الفردي والجماعي بين الضرب والجلد وتكسير الحجارة إلي التجويع والعزل والتهديد فضلا عن الإهانات اللفظية، وظل الحرمان من الزيارات مستمرا في كل الأحوال. لقد كتب عن ذلك الكثيرون وليس لدي مزيد من التفاصيل التي يمكن إضافتها. ما يعنيني في هذا المقام الإشارة إلي أن التعذيب في تلك المعسكرات خاصة في أوردي ليمان أبو زعبل كان أشبه بالتعذيب الذي كنت قد قرأت عنه في معسكرات هتلر النازية2 فيما عدا أفران الغاز الشهيرة. كان تعذيبا لا يستهدف الحصول علي اعترافات أو معلومات، بل مجرد سحق شخصية الضحية. يجري وفق خطة مبرمجة تحول بين الضحية وأي توقعات بحيث لا يعرف تحديدا متي ستكون الضربة القادمة ولا علي أي جزء من جسده ستقع ولا ما هو مبررها المباشر. انعدام التوقعات ومن ثم انعدام المعني. عملية مبرمجة مخططة كما لو كنا حيال تجربة معملية لخلق حالة متطرفة من حالات "الاغتراب"، وقد انهار البعض بالفعل وسقطوا في هوة الاضطراب العقلي الصريح.
كان النظام في الأوردي شأن بقية معسكرات التعذيب يقضي بحظر تبادل الحديث بين المعتقلين وبعضهم البعض خاصة بعد إغلاق العنابر عليهم مع نهاية "العمل" وهو التعبير الرسمي عن القيام بتكسير البازلت في الجبل، واعتاد الجميع الحديث همسا، فإذا ما ارتفع الهمس ولو قليلا، كانت صيحة الحارس "امنع الغاغة3" تعد نذيرا بأن عقابا جماعيا إضافيا يتهدد نزلاء هذا العنبر في الصباح، ورغم ذلك فقد ظل التواصل الهامس مستمرا حتي خلال "العمل".
لا خصوصية
لا خصوصية في السجون ومعسكرات التعذيب، وإذا كان انتهاك الخصوصية يعد جريمة يعاقب عليها القانون فإن انتفاء تلك الخصوصية بالنسبة لنزلاء السجون والمعتقلات تصبح هي القاعدة التي تعرض من يخرج عليها بعقاب إضافي. في معسكر التعذيب يكون المرء مرئيا طوال الليل والنهار، ولعلي لم أحس بصدق المقولة الوجودية الشهيرة "الجحيم في عيون الآخرين" قدر ما أحسست بصدقها في تلك الأيام. ثمة عيون ترقبك دائما. لا تتلصص ولا تتخفي بل تمارس "حقها" في اقتحامك جهارا نهارا آناء الليل وأطراف النهار. حتي حين يغلق عليك باب "العنبر" فإن ثمة ثقب بالباب تغطيه من الخارج "سقاطة" معدنية متحركة تتيح للحارس الجلاد أن يرفعها وقت يشاء ليطل علي ضحاياه. إنها "العين ذات الجفن المعدنية"4. ولا يعد السجن "الانفرادي" خروجا علي هذه القاعدة، فالسجين في هذه الحالة لا يكون منفردا رغم أنه يكون معزولا عن الجماعة؛ فالجلاد المراقب معه دائما وبتركيز أكبر، فليس ثمة ما يشغله سواه. الفارق هو عزلة السجين عن رفاقه. إن إطلاق تعبير "التأديب" علي زنازين السجن الانفرادي ليس مصادفة. إنه أحد الأساليب المفضلة لدي الجلادين لتأديب الضحية بحرمانه من الإئتناس بجماعة الانتماء حتي خلال خضوع تلك الجماعة للتعذيب الجماعي، ويزداد التأثير بطبيعة الحال إذا ما كان السجن الانفرادي مصحوبا بتعذيب انفرادي أيضا حيث يفتقد الضحية الاحساس بأن ثمة من يشاركونه العذاب مما قد يزيد من تحمله من خلال ثقافة جماعية يتساند من خلالها الضحايا. ولقد مررت بخبرة الحبس الانفرادي أكثر من مرة. أما عن الجلادين، لقد شهدت معسكرات التعذيب المصرية ما عرف بين المعتقلين باسم "فرقة اللواء همت" التي كانت تضم جنودا وضباطا وصف ضباط من العاملين في السجون يتخصصون في التعذيب الجماعي أو ما يطلق عليه تعبير "التكديرة". سمعت ممن سبقوني إلي الأوردي وبالتالي كانوا أول من استقبلتهم فرقة اللواء همت أن الجلادين قد انهالوا عليهم بالعصي وهم يصرخون طالبين منهم سب آل البيت، مكررين آخر خبرة لهم وكانت تعذيب المعتقلين من الإخوان المسلمين؛ وحين صرخ فيهم قائدهم منبها "دول شيوعيين كفرة" تحولت الصرخات فورا إلي "قولوا لا إله إلا الله يا كفرة". إنهم لم يتلقوا أي نوع من التهيئة الفكرية كما هو الحال مثلا بالنسبة للجلادين في الدول العقائدية، كل ما تلقوه تدريبا متقان علي التفاني في الطاعة، وتنفيذ الأوامر فورا دون تفكير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.