لم ينحصر تأثير أزمة اليونان المالية والاقتصادية علي الدول الأوربية التي تعتمد اليورو كعملة موحدة (16 دولة من بين 27 دولة تشكل الاتحاد الأوربي). ولم تتحقق مخاوف انتشار الأزمة إلي البرتغال واسبانيا وايرلندا وايطاليا فقط بل ضربت الأسواق العالمية كلها. تتكرر إذن الأزمة بالعدوي. كما حدث سابقا لمجرد إفلاس بنك "ليمان براذرز" في الولاياتالمتحدة (2008) واليوم لمخاطر إفلاس دولة أي اليونان تلك الحالة المرضية للرأسمالية التي تعيد نفسها دوريا تظهر هشاشة النظام الرأسمالي الدولي برغم استمرار بقائه. وفي كل مرة يكون خروجه من الأزمة علي حساب الجماهير العريضة المنتجة التي تدفع ثمن فوضي عملية الإنتاج الرأسمالي. فما الذي يحدث في داخل هذا النظام ويجسده هذا الاختلال الدوري ومن أين يستمد قدرته علي البقاء؟ طوال عطلة نهاية الأسبوع وحتي صباح الاثنين 10 مايو دارت اجتماعات ومفاوضات علي أعلي مستوي بين دول الاتحاد ومع الدول الصناعية السبع الكبري لاحتواء الأزمة الجديدة. وقرر وزراء مالية الاتحاد خلق آليات لضمان الاستقرار المالي في "الاتحاد" وخاصة مجموعة اليورو. وخصص للقيام بهذه السياسة "صندوق إعانة" يقترض من الأسواق المالية 440 مليار يورو بضمانة الدول بالإضافة 220 مليار يورو كقرض من صندوق النقد الدولي. وهذه الأموال معدة لتقديم المساعدة الفورية لأي بلد من مجموعة اليورو تتعرض لأزمة. والأزمة تظهر أن "الاتحاد" لم يجسد وحدة مالية فعلية فبريطانيا (التي لم تعتمد اليورو كعملة) ترفض كلية المساهمة في إنقاذ اليونان ويتصلب موقفها أكثر في ظل أزمة الحكم الراهنة بعد الانتخابات و ألمانيا بدورها عارضت مدة طويلة قبل موافقتها علي تقديم العون لليونان وساهمت في تعقد الأزمة. والتباطؤ الألماني للمساهمة في إنقاذ اليونان كان بسبب وضع مصلحة ألمانيا أولا. فمساعدة اليونان تعني انخفاض استيراد اليونان من السلع الألمانية التي تحتل الصدارة في علاقات التبادل التجاري مع اليونان. إذ ستعمل اليونان أساسا علي تشجيع صادراتها لتحقيق توازن بالميزان التجاري وتقليص العجز. ويضاف أن المواطن الألماني يري أن مساعدة بلاده لليونان ستكون علي حسابه فهو الذي سيدفع ثمن اقتراض حكومته من السوق المال لمساعدة اليونان. وبالفعل أسفر غضب الشعب الألماني من موافقة "إنجيلا ميركل" علي منح قرض مساعدة إلي هزيمة حزبها في انتخابات محلية مهمة في 9 مايو. انتشار العدوي ويضاف لتناقضات "الاتحاد" عدم اتخاذ "البنك المركزي الأوربي" للموقف الأمثل بمواجهة أزمة اليونان بشراء ديونها بضمانة دول الاتحاد وبالتالي يسدد الديون للبنوك التي منحت تلك القروض لليونان. فبهذا الحل ينقذ اليونان والبنوك معا. ولهذا الموقف الأوربي أسبابه وأهمها الاحتمال الكبير لسقوط العديد من دول الاتحاد الأخري في أزمة مماثلة ومطالبتها بمساعدة إنقاذ مثل اليونان. فالبرتغال لا تكاد تتمكن من السيطرة علي أقساط الديون وأعبائها. وفي اسبانيا تصل نسبة البطالة إلي 20% من القوة العاملة. والمشكلة الأساسية أن كل الدول تضع مسئولية الأزمة علي المنظمات التي تعين المخاطر المالية لهذه الدولة أو تلك وان التقديرات التي تنشرها هذه المنظمات هي ما يصيب الأسواق المالية بالجنون فتنخفض أسعار صرف عملات وأسهم الدول المعرضة للمخاطر. بمعني آخر لا تري الدول المخاطر إلا في مؤشر واحد وليس في الكيفية التي تعمل بها اقتصاديات كل دولة والتي يحكمها قانون أساسي وهو المنافسة والتنافس دون رحمة بين اقتصاديات كل دولة في مواجهة الاقتصاديات الأخري حتي ولو كانت ضمن مجموعة "الاتحاد الأوربي". البقاء للأقوي وهذا القانون الأساسي الذي يشكل العمود الفقري للرأسمالية يتجسد في داخل كل مجتمع في سياسات ملموسة تخص كل شركة وكل مصنع وكل قطاع من قطاعات الإنتاج إذا لم ينفذها لينقذ نفسه في معركة البقاء للأقوي علي المنافسة. وبمعني آخر يعني قيام الدول بتخفيض الضرائب علي أصحاب الشركات ورجال الأعمال لتقليل نفقات الإنتاج. ويعني المزيد من تقليص أجور العاملين وتجميدها وزيادة ساعات العمل علي العاملين بساعات عمل إضافية وعدم تشغيل قوة عمل جديدة بل ومباركة سياسة تسريح العاملين وإخراجهم إلي جيش البطالة وتمديد مدة الخدمة إلي ما بين 67 سنة و70 سنة لإطالة مدة الاستقطاع من الأجور لتمويل صندوق المعاشات بحجة أن العناية الصحية والطبية أسفرت عن طول العمر الافتراضي للمواطنين. ويعني أيضا انتقال الشركات من البلدان الأم إلي بلدان أخري حيث تتوافر أيد عاملة أرخص والمضاربة علي أسهم الشركات في السوق المالية... فالأزمة الراهنة تعود لتطرح الأسئلة ذاتها التي طرحت منذ سنتين مع انتشار الأزمة من الولاياتالمتحدة لتعم العالم. فإفلاس بنك أو إفلاس دولة يفجر ذات الأزمة كوباء علي الصعيد العالمي. ولكن الخصوصية اليوم هي التهديد الفعلي للاتحاد الأوربي ولليورو كعملة. عملة مستقلة فمشكلة اليونان كان يمكن حلها لو كان لها عملة مستقلة فبتخفيض سعر العملة تحل المشكلة جزئيا بتشجيع الصادرات ورواج السياحة... ولكن لأن عملتها هي اليورو فليس أمامها إلا اللجوء للمزيد من الاستدانة. أي أن العملة المشتركة في بعض دول الاتحاد هي إحدي العقبات في اتباع سياسية نقدية وطنية مستقلة لمواجهة أزمة مالية. وربما تتمكن اليونان من حل الأزمة ولكن بثمن باهظ ستدفعه الغالبية من الطبقة العاملة والطبقة الوسطي خاصة الموظفين. وقد بدأت الدول الأوربية تستند لحجة الأزمة لفرض سياسات تقشف بدعوي تحاشي المرور بأزمة مماثلة لليونان. وفي صحيفة "ليبراسيون" في 30 ابريل، يقول الاقتصادي "هنري سيردناك"إن "سياسة التقشف التي فرضت علي بلدان الجنوب الفقيرة سوف تعمم في البلدان الأوربية بتخفيض الأجور وكذا الإنفاق العام للدول والأوضاع ستزداد ترديا في غياب حركة نقابية قوية ويسار متماسك ليدافع عن مستوي الأجور والمعاشات. وان مستقبل أوربا رمادي." والخوف الشامل في أوربا بل علي الصعيد العالمي هو استنباط منطقي فغدا سوف تنفجر أزمات مماثلة ولن تسهم الإجراءات التي اتخذتها الدول الأوربية لحل للمشكلة بل لتعميقها. إذ أن أصحاب رأس المال والمشاريع الكبري لن تمسهم تلك الإجراءات بتقليص هامش الربح الذي يحققونه ولن تزداد عليهم نسب الضرائب علي الدخول بحجة تشجيعهم علي البقاء وعدم دفعهم لغلق شركاتهم والهجرة لزرعها في بلدان أخري حيث الأيدي العاملة ارخص. وأعترف الرئيس ساركوزي بأن "منطقة اليورو تجتاز أكبر أزمة منذ تأسيسها". وكتبت الصحف عن "الأسبوع الذي تسبب في ركوع أوربا" وعن "العجز الأوربي".. فالنظام الرأسمالي في مواجهة ما يسميه "فاليرشتاين" في 15 فبراير في مقاله : "الفوضي كشيء يومي" وتتلخص في عدم رؤية المسئولين للأسباب الفعلية للازمات. فالدول تخفض الضرائب علي الدخول فتنخفض موارد صندوق الدولة. ولكنها تخفضها لتشجيع المواطنين علي الاستهلاك ولكن تلك السياسة تتخذ في ظل الزيادة المستمرة في عدد الخارجين إلي جيش البطالة وبالتالي يكلفون الدولة التي تمدهم بمساعدات للحفاظ علي حد أدني للحياة الإنسانية. ولا تصلح تلك السياسة من شيء فتلجأ الدولة لسياسة مناقضة برفع الضرائب علي الدخول فلا ينفق المواطنون القليل المدخر بحوزتهم وتغلق الشركات لعدم قدرتها علي تصريف سلعها وتلقي بالآلاف في جيش البطالة. ويستنتج "فاليرشتاين" بان : "مشكلات اليونان هي مشكلات ألمانيا ومشكلات ألمانيا هي مشكلات الولاياتالمتحدة ومشكلات الولاياتالمتحدة هي مشكلات العالم". فبرغم أن حكام الدول الكبري صدعوا رؤوس المواطنين فإنهم يعملون بجدية لفرض القيم "الأخلاقية" علي النظام الرأسمالي وتقليم أظافر المضاربين في أسواق المال العالمية فإن ما يحدث اليوم وما سيحدث في الغد يظهر أن تلك أكذوبة وأنهم لا يملكون وسيلة ناجعة لفرض تلك الأخلاق ولا لتأديب المضاربين. ببساطة لأن تلك الممارسات هي جوهر النظام الرأسمالي في ابسط مبادئه. ولكن الأزمة الأكثر حدة وتواجه "الاتحاد" والتي لا يعرف أحد كيف ستنتهي هي أزمة بلجيكا المهددة بالانقسام لدولتين وبرغم أنها تعيش منذ أسابيع بحكومة مؤقتة لتصريف الأمور الجارية، بعد استقالة رئيس الوزراء. إذ وضع الاتحاد معظم مراكز اتخاذ قراره في العاصمة البلجيكية الراهنة بروكسل من البنك المركزي الأوربي إلي البرلمان الأوربي.