كان الاحترام المصري وفي أغلب الأحيان لمختلف العقائد والديانات هو أساس كل تعامل بين مسلمي مصر وأقباطها ولكي نوضح الفارق بين ما نحن فيه من تشدد وتطرف وما كان عليه آباؤنا من تآخ وتوحد. ونقرأ «حرص حكام مصر علي إيجاد أنظمة تكفل حقوق المسيحيين وتحترم رغباتهم في ممارسة عباداتهم فسمحت للفنادق التي ينزل فيها التجار الأجانب بأن تخصص يوما لإقامة قداس ورعاية دينية للنزلاء، فكان لكل فندق مساحة لكنيسة ولكل جالية قساوستها، ماعدا الجاليات الكبري فقد كان لها كنائس كبري مستقلة مثل كنيسة القديس نقولا لأهل بيزا وكنيسة القديس ميشيل للبنادقة (تاريخ وآثار مصر الإسلامية – الهيئة العامة للاستعلامات – ص765). ويذكر المقريزي في خططه أنه كان علي أيامه «القرن التاسع الهجري» حوالي تسع عشرة كنيسة في القاهرة أغلبها محدث في حكم المسلمين، في حين بلغ كنائس الوجه البحري خمس عشرة كنيسة وكنائس الإسكندرية أربع كنائس، كما كان مسموحا للنصاري أن يشتروا بيتا أو مبني ويحولونه إلي كنيسة كما حدث في سمنود وأبي تيج وغيرهما» ونقرأ أيضا «وقد حرص بعض أثرياء النصاري أن يحبسوا أوقافا علي الكنائس والأديرة، وقدرت هذه الأوقاف في سنة 755ه (1354م) بخمسة وعشرين ألف فدان في مختلف أنحاء البلاد وكان يشرف البطريرك المختص» (المرجع السابق ص113). ونواصل القراءة «وفي دير سانت كاترين يوجد العديد من الكنائس أكبرها كنيسة التجلي ولها باب عال من الخشب تزينه نقوش بارزة تمثل النبي موسي وواقعة التجلي، بينما يوجد داخل أسوار الدير نفسه مسجد بني علي الطراز الفاطمي وقد أنشأه الرهبان حتي يتمكن زوار الدير من المسلمين من تأدية الشعائر الدينية، ولم يزل بالدير حتي الآن منبر هذا الجامع وكرسي للقراءة من الخشب ويعتبران من أنفس التحف الإسلامية، وقد حرصت القبائل في سيناء علي اعتبار الدير وممتلكاته أمانة في أعناقها، وقامت بحماية الرهبان والدير وملحقاته، وتولت حمايتهم من قطاع الطرق واللصوص، كما تكفلت بإيصال المؤن إليهم، وتسهيل سبل الزيارة للدير سواء كان الزائرون من المسلمين أو المسيحيين، ومن المعلوم أن كثيرا من الحجاج المسلمين كانوا يزورون الدير سواء وهم في طريقهم إلي مكة أو أثناء عودتهم منها، ويحتفظ الدير بعدد كبير من المنشورات والمراسيم والتواقيع الصادرة عن خلفاء مصر في العصر الفاطمي وسلاطينها وأمرائها في العصرين الأيوبي والمملوكي والتي تؤكد حقوق رهبان الدير وضرورة رعايتهم وتأمينهم علي أرواحهم وأملاكهم وأوقافهم» (المرجع السابق – ص974). وقد تآخي الرسامون والفنانون المصريون معا وأثمروا فنونا مشتركة تآخت فيها الرسوم والزخارف القبطية مع الإسلامية «فيوجد في هيكل كنيسة العذراء في دير السريان بوادي النطرون زخارف من الجص اختلط فيها الفن القبطي بالإسلامي». وكانت علامة الصليب تتداخل مع الزخارف الإسلامية في عديد من الإبداعات الفاطمية، مثل كنيستي الست بربارا وأبي سيفين في مصر القديمة «المرجع السابق». وفي زمان ثورة 1919 كتب مكرم عبيد وكان آنذاك سكرتيرا للمستشار القضائي البريطاني مذكرة أوضح فيها أسباب مشاركته في إضراب الموظفين ورأيه في القضية الوطنية المصرية.. ونقرأ في هذه المذكرة «فكان قسوس بني القبط هم القادة المنشودين لجموع المتظاهرين، وما أحلي صيحات البشر التي كانت تصعد من قلوب القوم كلما مر بهم علم يتعانق فيه الهلال والصليب، ثم إن المكان الأول الذي اتخذه الأزهر منبع العلوم الإسلامية في حركة التسامح هذه فيه ما فيه من المعاني وأنني لا أري في ذلك شيئا عجيبا، فالطالب الأزهري هو الطالب المصري الذي رضع العلوم الأدبية والفلسفية القومية الصحيحة، وهو يفضل بكثير في أدبه وحلاوة صيته الأفندي العادي الذي أنتجه لنا التعليم العصري المتجلنز أي التعليم الذي رأت السلطة الإنجليزية منحه لنا» ويواصل مكرم عبيد حديثه عن دور الأقباط في ثورة 1919 قائلا «أما بنو القبط فقد ظهر للعيان اندماجهم في الحركة قلبا وقالبا، وقد عزا بعض من لا يثقون في قوة الوازع الوطني ذلك إلي خيبة أمل الأقباط في رفع الإنجليز عنهم ما يشكون منه . وقال البعض الآخر إن القبطي صاحب الدهاء دوما سلك مع المسلمين مسلكهم صونا لعنقه وقد قال القاضي مارك بارنت أمامي في معرض حديثه عما جري في أسيوط إنه لم يعد يعطف علي الأقباط وأنهم يستحقون ما سيحدث لهم فيما بعد» ويمضي مكرم عبيد متسائلا «ليت شعري أيجهل القاضي مارك بارنت أن الأقباط هم من بني البشر وأن غريزة الوطنية سائدة وكاسية لهم، ولكنني أذكر ذلك وفي قلبي مرارة من التكلم عن الأقباط والمسلمين كأنهما فريقان، مؤكدا أن الدين لا يجوز أبدا أن يغير التوجه الوطني في أمة اتحدت لديها القومية والجنس والتاريخ والعادات وإني لأشعر بأن الوقت قد حان كي نعرف بيننا إلا كلمة مصري ولا يذكر المسلم والقبطي إلا في دور العبادة» ويقول «لقد ولدت ثورتنا المباركة بطلا للبلاد في شخص القس سرجيوس ولست أجد ما أختتم به مذكرتي هذه أفضل من عبارة لهذا القس الكريم.. إذا كانت الحال تدعو لتضحية المليون قبطي في سبيل حرية سائر المصريين فإن التضحية واجبة وثمنها غير ضائع». وأكرر «التضحية واجبة وثمنها غير ضائع.. فهل يتفهم ذلك طغاة زماننا الحالي ومتطرفوه؟».