إفقار اكبر عدد من المصريين يعني تخلي عدد أكبر عن الحياة السياسية وبعدهم عن أي مشاركة في صنع حاضر ومستقبل هذا الوطن. لعل هذه الحقيقة هي اهم ما كشف عنه تقرير "الفقر في مصر" الذي أصدره مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء الأسبوع الماضي. هذا التقرير الذي كشف بالأرقام والاحصاءات عن أمور كثيرة تستحق المتابعة والتحليل ... لكن أكثر هذه الأمور اهمية هو تأكيده علي ان الفقر يصرف الناس عن المشاركة السياسية، رغم ان هذا الأمر ليس جديدا.. لكن الجديد هو النسب التي اعطاها. فوفقا للتقرير فإن 74 % من افراد الطبقة الفقيرة ليس لديهم أي اهتمام بالحياة السياسية. حتي تلك النسبة التي تهتم بالسياسة والتي تصل الي نحو 26% فقط، فلا تتخطي اهتماماتها اشباعا سطحيا لمعرفة تطورات ما يجري وليس للمشاركة في صنع وتغيير الواقع السياسي. يأتي هذا الانصراف عن السياسة لدي فقراء المحروسة بالرغم من اتساع نسبة عدم الرضا عن حياة المصريين... فوفقا لنفس التقرير فقد ابدي 86% من الطبقة الفقيرة عدم رضاهم عن أوضاعهم مقارنة بنحو 7% فقط من الطبقة الغنية. وهنا لابد ان تكون لنا وقفة فمن البدهي ان عدم الرضا تستتبعه حالة من الحراك نحو تغيير هذا الوضع الذي لا يرضي عنه أي انسان. ولكن المشكلة في مصر ولدي هذه الطبقة الفقيرة هو غياب القناعة بأن مفتاح تحقيق الرضا والتغيير وتحسين وضعهم الاقتصادي يكمن في السياسة وليس فقط في اللهث ليلا ونهارا لتوفير لقمة العيش. ودعونا نسترشد بما يجري في العالم للتاكيد علي ان السياسة هي مفتاح مواجهة الفقر، وللتأكيد ايضا علي ان زيادة مستوي الدخل يستتبعه توافر مناخ ديمقراطي يسعي للتغيير باستمرار. ودليلنا علي ما نقول نجده في مثالين هما سنغافورة وماليزيا اللذان يقدمان نموذجا لما يمكن ان يحدث علي الصعيد السياسي وارتباطه بالنمو الاقتصادي.. سنغافورة وهي جزيرة صغيرة لا تعدو مساحتها 620 كيلو متراً مربعاً ، خالية تقريباً من كل الموارد الطبيعية ، وكانت تعتبر دولة متخلفة قبل عقود قليلة، ولم تبدأ مسيرتها التنموية بشكل جاد إلا بعد استقلالها عام 1965 علي يد (لي كوان يو) رئيس وزرائها حتي عام 1990 . ورغم ان لي حكم البلاد في ظل نظام سلطوي فردي ، لكنه تميز في نفس الوقت بالنزاهة، والقضاء علي الفساد الإداري الداخلي بقوانين شديدة القسوة، والأهم انه راهن علي التعليم فمكن بلاده من امتلاك واحدة من ارقي نظم التعليم في العالم (قارن لتعرف سبب تخلف التعليم في مصر) . لقد أثمرت النهضة التي حققها في بلاده رغبة في التغيير فاستقال من رئاسة الحكومة ونال لقب الوزير الأكبر حتي عام 2004 ليصبح بعد ذلك الوزير المعلم صاحب النفوذ الأدبي. والمثال الثاني ماليزيا وكلنا نعرف تجربتها التنموية تحت قيادة مهاتير محمد الذي استطاع القفز ببلاده اقتصاديا منذ تولي رئاسة حكومتها عام 1981.. وخلال 22 عاما، اصبحت ماليزيا احد انجح الاقتصادات في جنوب آسيا.. فقدم مهاتير استقالته عام 2003 وسبق ذلك انجازات تحسب له بعد ان نجح في تخفيض نسبة السكان تحت خط الفقر من 52% اي اكثر من النصف، الي 5% فقط في عام 2002، مقارنة بنسبة الفقراء المصريين وقدرها 4ر23% من اجمالي سكان المحروسة عام 2008/2009 . كما ارتفع دخل المواطن الماليزي بأكثر من سبعة امثال ما كان عليه ليصل عام 2002 الي 8862 دولارا بينما تتراوح تقديرات دخل المصري بين ثمانمائة دولار حسب بعض التقديرات، وألفين حسب تصريحات رسمية، في ظل غياب الحقيقة بسبب افتقاد الشفافية في مصر استمر الائتلاف الحاكم الذي ضم حزب مانو بقيادة مهاتير محمد في السلطة بعد استقالته ولكنه واجه تحديا صعبا في انتخابات عام 2008 التي شهدت خسارة الائتلاف سيطرته علي ثلثي مقاعد البرلمان وحصوله بالكاد علي نسبة 51% من أصوات الناخبين.. وهذا التراجع ليس نكرانا للجميل، كما يحب بعض سياسيينا ان يصفوا الانتقادات الموجهة اليهم، ولكنه الرغبة في التغيير المتأصلة في وجدان وطبيعة الإنسان اينما كان. الخلاصة ان مفتاح تحقيق التنمية ومواجهة الفقر لا تبدأ سوي بالسياسة وإرساء الديمقراطية مما سجنب أي بلد وقوع كوارث وأزمات لأن هناك مساءلة للمسئولين فلا نجد في أي دولة ديمقراطية ازمات تندلع كل يوم مثل أزمة انابيب البوتاجاز أو ازمة الخبز ثم ازمة المياة وازمات مزمنة كالمرور وغيره. الخلاصة ان عقم الديمقراطية في مصر يؤدي الي إفقار الشعب وقتل كل فرصة للنمو الاقتصادي حتي لا يسعي الي الديمقراطية التي قد تطيح بالنخبة الحاكمة.. لينطبق علينا قول القائل "داوني بالتي كانت هي الداء" فكما ادت السياسة الي افقار المصريين.. فلن ينصلح الاقتصاد ويرتفع مستوي المعيشة وينخفض الفقر من دون السياسة.