التناقض الفصامي كحالة من تشوش واضطراب التفكير القائم علي الربط غير المنطقي بين الأشياء يتطابق مع منهج السياسات المالية والنقدية الأمريكية في أعقاب أزمة الكوفيد التي حملت في طياتها ازدواجية الخيارات وتناقض الآليات حيث انتهجت حكومة بايدن سياسات مالية توسعية مفرطة أعقاب أزمة الكوفيد أعقبها سياسات نقدية إنكماشية. وقد نجم عن هذا التناقض سلسلة من الأضرار والمخاطر أثرت علي الاقتصاد العالمي وأثرت بشكل حرج وخطير علي استقرار الدول النامية المنهكة بأعباء الديون الخارجية بما فيها مصر، والتي رغم ظروفها الاقتصادية، وقعت تحت وطأة اللهث خلف موجة رفع أسعار الفائدة من أجل تجنب هروب رؤوس الأموال من أسواقها المالية إلى الخارج، وقد نجم عن ذلك عواقب ثقيلة الحمل تمثلت في إنحسار شديد في قيمة عملتها المحلية وانخفاض مذهل في القيمة الحقيقية للثروات الخاصة والعامة بها . وقد تمثل التناقض الفصامي للاقتصاد الأمريكي في شكل تبني سياسة مالية توسعية أعقاب وباء الكوفيد بالتحديد عندما أقرت الحكومة الأمريكية سلسلة من التدخلات الأغلى في العالم بين عامي 2020 و2021 بقيمة 5.300 مليار دولار (ما يعادل 25.4 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020)، وبالمقارنة، كانت استجابات منطقة اليورو والمملكة المتحدة لوباء الكوفيد أكثر اعتدالاً، حيث بلغت حزمة التدخلات 12 و20% من الناتج المحلي الإجمالي لهما على التوالي . وقد كان الهدف من ذلك الخيار التوسعي إنعاش الاقتصاد الأمريكي وإسراع معدلات النمو وما يترتب علي ذلك من آثار علي الاقتصاد العالمي واقتصاديات الدول النامية، وبالفعل سمح ذلك الخيار التوسعي للسياسة المالية للاقتصاد الأمريكي بالعودة إلى مستويات الإنتاج إلي ما قبل الجائحة في بداية عام 2021، وخلق حالة من التفاؤل، إلا أنه علي الجانب الآخر أنتج أيضا ارتفاعا في معدلات الطلب الكلي تفوقت علي معدلات الارتفاع في جانب العرض الكلي ، مما أدي الي زيادات في أسعار السلع والخدمات. واضطراب سوق العمل والأجور، وبعد لحظة توقف محمودة لكنها قصيرة من قبل البنك الفيدرالي، اعتبر فيها تعافي التضخم ظاهرة عابرة، غير بنك الاحتياطي الفيدرالي رأيه جذريا، واختار إعادة توجيه حاسمة للسياسة النقدية في اتجاه انكماشي حمائي وبشكل متناقض توجهات الحكومة التوسعية . النواتج السلبية العالمية لذلك متعددة الأبعاد وإن كانت ظهرت بوادرها إلا أنها لم تتبلور كاملة بعد وأولها هو حالة ركود عالمي وزعزعة استقرار الأوضاع الاقتصادية والسياسية للدول النامية التي تعتمد علي الدولار في معاملتها المالية . والمثير للقلق هو مدي تشابه تلك الحالة مع أوضاع الاقتصاد العالمي في السبعينيات والثمانينيات التي تمثلت في ارتفاع أسعار الطاقة و معدلات التضخم، وركود النمو مع ارتفاع تكاليف الاقتراض. حيث عام 1974، ولمكافحة التضخم القوي الناجم عن أزمة النفط الأولي قام الاحتياطي الفيدرالي، برفع أسعار الفائدة من 6 ٪ إلى 13 ٪؛ بينما لمواجهة آثار أزمة النفط الثانية والتي اندلعت في عام 1979، قام محافظ البنك الفيدرالي بول فولكر بمزيد من الرفع لأسعار الفائدة إلى أن وصلت الي 19% . اليوم يبدو أن نفس السيناريو يتكرر: ففي مواجهة الزيادة السريعة في التضخم رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة عشر مرات في غصون سنة واحدة . على الرغم من أوجه التشابه مع الماضي، إلا أن هناك بعض الاختلافات المهمة. أولها أن اليوم، ينجم التضخم في الولاياتالمتحدة بشكل أساسي عن السياسات النقدية والمالية المفرطة التوسعية التي تم تنفيذها لمواجهة أزمة الوباء بدءًا من عام 2020. بينما لعبت الزيادة في أسعار الطاقة في دعم ديناميكية التضخم في الولاياتالمتحدة. (على الرغم من أهميتها ) دورًا أصغر مقارنة بالحالة الماضية ثانيا اختلاف طبيعة الزيادة في أسعار الطاقة حيث الان تتعلق بشكل رئيسي بأسعار الغاز وليس بأسعار النفط كما حدث في السبعينيات والثمانينيات. حيث أن نمو الطلب على الغاز الطبيعي المسال تسبب في ارتفاع حاد في أسعار الغاز أيضًا في السوق الأمريكية. حيث ارتفع سعر الغاز الأمريكي منذ يناير 2020 حتى اليوم السابق لاندلاع الصراع في أوكرانيا (24 فبراير 2022)، بما يقرب من ثلاثة أضعاف بالقيمة الحقيقية، ومن هنا نخلص إلي أن النفط، الذي كان بطل حلقتي صدمات العرض خلال السبعينيات والثمانينيات، يلعب دورًا أقل أهمية في دعم ديناميكيات الأسعار اليوم . الآثار الدولية للسياسة النقدية التقييدية في الولاياتالمتحدةالأمريكية: عندما يقرر بنك الاحتياطي الفيدرالي اتجاه السياسة النقدية، فإنه يأخذ في الاعتبار فقط معدلات التضخم ومعدلات تشغيل العمالة في الولاياتالمتحدة و يغفل ويتغاضي عن الدور الكبير الذي يلعبه الدولار في الأسواق المالية الدولية نظرًا لحجم الاقتصاد الأمريكي، وما لذلك من تأثيرات خطيرة على اقتصادات البلدان الأخرى، وخاصة على اقتصادات البلدان النامية حيث يؤثر ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية على اقتصادات هذه البلدان من خلال عدة قنوات، يتمثل الأول في العائد المرتفع الذي توفره السندات للخزانة الأمريكية والتي يعتبرها المستثمرون الدوليون ملاذاً نموذجيًا خاليًا من المخاطر، بينما في الواقع، فإن هذا ينطوي على سحب الاستثمارات المالية من الاقتصادات النامية نحو السوق الأمريكية. وبالتالي فإن الدول النامية وبغض النظر عن وضعها الداخلي، تضطر لدخول سباق غير متكافئ نحو رفع أسعار الفائدة لديها لتجنب هروب رأس المال من أسواقها إلى الخارج، أخذة في الاعتبار ذلك البعد فقط متغافلة عن انعكاساته علي انخفاض قيمة سعر الصرف للعملة المحلية وما لذلك من عواقب وخيمة ، خاصة أن معظم تلك الدول تعاني من عجز في الميزان التجاري. وقد ساهم هذا الوضع في اندلاع الأزمتين المزدوجتين (الأزمة المصرفية وأزمة العملة) في العديد من البلدان النامية . وقد يكون هذا الأخير في الواقع نذيراً بآثار سلبية آنية وبعيدة المدي بسبب ارتفاع تكلفة السلع المستوردة وبالتالي تكلفة المعيشة خاصة علي فقراء تلك الدول . مما يزيد الأمر سوءا هو الانعكاس غير المباشر لكلتا الأزمتين المتلازمتين علي تفشي حالة عامة من انعدام ثقة مواطن تلك الدول في العملة الوطنية وتفضيل التعاملات الداخلية بعملة أجنبية يمكن الاعتماد عليها . مما يفرز حالة حلزونية من مزيد من انخفاض في قيمة العملة المحلية مقابل الدولار، وبالتالي مزيد من حصة عبء خدمة الدين من الموازنة العامة مما ينعكس بشكل مباشر على مخصصات الموازنة العامة الانفاق الاجتماعي والصحي والتعليمي والأجور. وللأسف فإن آثار السياسات النقدية التقييدية التي انتهجها حتي الآن بنك الاحتياطي الفيدرالي تهدد بزعزعة استقرار أسواق واقتصادات البلدان النامية ليس فقط علي المدي القصير بل تمتد تلك الآثار علي المدي الطويل، ذلك نتيجة ضعف مرونة تلك الأسواق علي امتصاص الصدمات الهيكلية الاقتصادية. والجدير بالاشارة هو أن البلدان الأكثر ضعفًا هي بلدان أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط وأفريقيا التي لديها أكثر من 50 ٪ من ديونها مقومة بالدولار. في حين أن الأقل تعرضا هي الدول الناشئة في القارة الاسيوية . ومن هنا تتلخص الآثار المباشرة علي الدول النامية في : 1) السحب الهائل لرؤوس الأموال من الاقتصادات النامية إلى الولاياتالمتحدة؛ 2) الانخفاض الكبير في قيمة العملة المحلية مقابل الدولار؛ 3) انخفاض أسعار أسواق الأسهم والسندات الخاصة بها؛ 4) الزيادة الحادة في الأقساط المدفوعة على مقايضات العجز الائتماني العام .. كيف يمكن الخروج من هذا المأزق؟ الجواب ليس بسيطا. من المحتم أن تستمر السياسة النقدية في البلدان النامية في إدارتها بطريقة مسايرة للدورة الاقتصادية لأنها عدمتورطة بين إدارة أسعار الفائدة (من الناحية المثالية نحو تخفيضها) لتحقيق استقرار الدورة واستخدامها (بحكم الأمر الواقع) للحد من انخفاض سعر الصرف. الاحتفاظ بأمل( ربما حلم ) ، قدرة ورغبة بنك الاحتياطي الفيدرالي على استيعاب التأثيرات التي تخلفها تدابيره وسياساته على اقتصادات النامية . والأمر الأكثر عملية (رغم صعوبة تنفيذه في وقت قصير ) هو خلق تحسينات هيكلية داخل الاقتصادات النامية ، على النحو الذي يجعلها أقل اعتماداً على الدولار والسياسة النقدية الأمريكية؛ ولكن من الواضح أن الوقت اللازم لتحقيق ذلك طويل. ومن ناحية أخرى، فإن معظم اقتصاديات الدول النامية خاصة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا معرضة خلال هذه المرحلة الانتقالية الطويلة، لخطر حدوث صدمات جديدة سياسية اقتصادية قادرة على إحداث انكماش نقدي من شأنه أن يؤدي إلى الركود العالمي. ووفقا لأحدث تقرير توقعات صادر عن صندوق النقد الدولي، فإن ثلث الاقتصاد العالمي يعاني بالفعل من الركود. ومن الواضح أن السيناريوهات الأسوأ، في التخلف عن سداد الديون، ممكنة وينبغي تجنبها، من خلال الدعم الذي يمكن أن تقدمه المنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للاقتصادات الأكثر هشاشة.