كلما قرأت خبرا عن تحول صحيفة عربية أو دولية من الإصدار الورقى إلى الموقع الإليكترونى ضاقت نفسى. يحضرنى على الفور حجم المعاناة التى صرت أتكبدها لتتبع بعض الصحف الأجنبية على الشبكة العنكبوتية، ليس فحسب بسبب الضوء الذى بات علميا يؤثر على شبكة العين ويساهم فى إضعاف البصر، ولكن لأنه يضعنى أيضا أمام حقيقة فشلت فى تجاهلها، واكتفيت بالنقمة عليها، وهى أن المتغيرات المتلاحقة وغير المستقرة على حال، لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، قد حرمتنى من متع صغيرة غالية ولا تقدر بثمن، متعة الهدوء والرضا بالأفراح اليومية البسيطة العابرة، كطقس تصفح الجريدة اليومية الورقية مع تناول فنجان قهوة الصباح. أطاحت ثورة الاتصالات بالعلاقة الحميمة الغائرة فى عمق النفس التى ربطت بين جيلي وبين قراءة الصحافة الورقية، وكتابة المقالات والرسائل الشخصية بالورقة والقلم . كما أغرقتنا فى عالم افتراضى لوسائل الاتصال الاجتماعى، بات يرتاده نحو 3 مليارت شخص يمثلون ما يقرب من 40% من سكان العالم، يجرى فيه التلاعب بأحاسيسهم، والتلصص على خصوصياتهم، وتتضارب فيه المصالح، ويكثر فيه الإعلان والاستهلاك والتدريب على الفوضى والدمار والخراب، وتنمو فيه التفاهة العابرة للقارات. لكن يظل الأهم أنه عالم بلا روح، يخلو من المشاعر الحقيقية ولا يأبه بالعواطف والرغبات والشغف الذى يحيى النفوس. عالم يوهمك بالغيث، بينما أنت قابع فى لجة ساحة جرداء مغللة بالسراب . وهل تفعل الصحيفة الورقية عكس ذلك؟ نعم تفعله، وهل تنسم عبير وردة كرؤيتها على شاشة زجاجية مسطحة ؟ لا تستوى الظلمات بالنور ؟! الصحيفة الإليكترونية خدمة لا شك فيها لقرائها، لكن اتساع نطاق متابعيها علي حساب الإصدار الورقى، لا يعني أنها الأفضل، لاسيما أنها فشلت في ملء الفراغ " العاطفى " الذي أحدثه تراجع قراءة نسختها الورقية. لم ينجح ذلك اللون المستحدث من الصحافة في إزاحة الإصدار الورقى عن المكانة التي راكمها عبر عصور سابقة. ولأننا أمة تتكلم أكثر مما تقرأ، وتثرثر أكثر مما تعمل وتنجز، فإن تلك المكانة تتراجع لدينا وتأخذ فى الإزدهار فى اليابان والهند والغرب الأوروبى والأمريكى. والمؤكد أن قراءة النسخة الإليكترونية قد لعب دورا مع عوامل أخرى فى تسطيح المعرفة. فالقراءة الإليكترونية لم تغن بعد عن قراءة الكتاب الورقى، وهى قراءة متعجلة ملولة غير متأملة. هذا فضلا عن أن قراءة الصحيفة الورقية والكتاب الورقى تنعش الذاكرة وتحث على التركيز. بالإضافة إلى أن المشاعر والأحاسيس والحميمية الإنسانية لاتزال تشغل حيزا كبيرا ومؤثرا في حياة البشر، وما النجاح الواسع لأغنية "حسين الجسمي" "لقيت الطبطبة "سوى تأكيد بسيط لذلك. قبل أيام شاعت أنباء عن توقف صحف يومية فى القاهرة عن الصدور تمهيدا للتحول إلى الإصدار الرقمي. ومع الارتفاع الهائل فى تكاليف الطباعة والإصدار الورقى، يشتد الجدال فى المنتديات الحوارية حول المستقبل الذي تنتهي إلي ضفافه الصحافة الورقية نهائيا . وقبل سنوات كانت الفنانة الاستعراضية نيللي بطلة لفوازير رمضانية تليفزيونية تثبت خلالها بجمالها ولطفها وخفة روحها المعهودة، أن حياة الإنسان من المهد إلى اللحد هي محض ورق .. ورق ..ورق . وقبل بضعة شهور، صدر في القاهرة قرار بتحويل ثلاث صحف مسائية مملوكة للدولة من النسخة الورقية إلى موقع إليكتروني ومعه تجدد الوجع، فبينها صحيفة "المساء"التي تحتل مكانة رفيعة فى تاريخ الصحافة المصرية، لم تكتب قصتها الحقيقية بعد . ويروي مؤسسها " خالد محيي الدين" في كتابه "الآن أتكلم "جانبا من تلك القصة، فيقول إنه حين عاد من منفاه السويسري، عرض عليه الزعيم جمال عبد الناصر اقتراحين للسماح له بالعودة للعمل العام وممارسة النشاط، إما أن يتولي منصب سفير مصر في إحدي الدول الإشتراكية، أو يصدر صحيفة مسائية معبرة عن التيارات اليسارية، وحين سأله خالد ولماذا جريدة مسائية، أجابه عبد الناصر لكي تكون محدودة الانتشار والتأثير. لكن نجاح المساء واتساع تأثيرها أدهش عبد الناصر ومسئوليه التنفيذيين، ممن كانوا يكنون عداء مضمرا فى بعض الأحيان، ومعلنا فى كثير منها، للإشتراكية ولقوى اليسار والتقدم. وإذا كان أحد تعريفات الحرية لدى بعض فلاسفة اليونان هو التوجه العقلى للإنسان القوى أمام الإحباط وخيبة الأمل، لأن رغباته وقراراته تعتمد على ذاته، ولا تنطوي علي أي شىء خارجها، فسوف تظل الاستجابة لذائقة أمزجتنا توقا لتلك الحرية، وتظل قراءة الصحيفة الورقية والكتاب الورقي متعة تجلب بهجة ولو عابرة، وتصنع ألفة محببة، وتشيد تواصلا في عالم يكرس العزلة، ويصنع الحروب وهو يلوك خطابا عن السلام . عالم يحفل بالصخب والضجيج والتفاهة ويخلو من المشاعر الأليفة الطيبة ويخاصم الطبطبة على النفوس والأرواح!.