*بقلم عيد عبد الحليم لعل من أهم السمات الإبداعية التي تميز الخطاب الشعري للشاعر المصري الراحل حلمي سالم سمة " المعايشة " فمن أراد أن يقرأ سيرته الذاتية فعليه أن يرجع إلي دواوينه الشعرية ؛ والتي تعد تاريخا ذاتيا له ؛ حيث حملها طموحاته وأفكاره وتجاربه في السياسة والحب . كان حلمي سالم يري أن الشعر كتاب مفتوح ؛ وغرام مسلح بالمعرفة ؛ ومغامرة غير محسوبة علي مستوي اللغة وعلي مستوي الرؤية ؛ وأذكر أنه قال لي ذات مرة "إن التعدد واحترام الآخر ؛ في الشعر والفكر؛ أنقذاني من الجمود والفاشية والاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة ؛ لذا فأنا لا أري أن تياري الشعري أو تياري الفكري هو الحقيقة الوحيدة التي تستحق الحياة " . وربما وجود هذا الكم الهائل من الدواوين التي تركها الشاعر والتي وصل عددها إلي ثلاثة وعشرين ديوانا هو دليل واضح علي أنه كان يسجل كل لحظة تمر عليه ؛ فهناك دواوين كاملة عن غرامياته وقصص الحب التي عاشها مثل " البائية والحائي " و " فقه اللذة " و" سراب التريكو " و" عيد ميلاد سيدة النبع " و " الغرام المسلح " ؛ كل هذه الدواوين كتبت بعد تجارب حقيقية عاشها . ومثلما عبر شاعرنا عن لحظة التألق وحب الحياة التي حاول أن يرتشف لذاتها ما استطاع إلي ذلك من سبيل .عبر كذلك عن لحظات الألم والمعاناة التي مر بها ؛ فقد سجل الأزمة المرضية التي مر بها عام 2005؛ حيث أصيب بجلطة في المخ ؛ في ديوان " مدائح جلطة المخ " ؛ والذي صدر عن دار الهلال في يناير عام 2006. وهو ديوان بديع يذكرنا بقصائد أمل دنقل ؛ والتي جمعت بعد وفاته ؛ في ديوان " أوراق الغرفة رقم 8 " ؛ فمثلما كتب أمل دنقل عن سرير المرض والزهور التي يأتي بها الزائرون واللحظات الحرجة لسريان المخدر في الدم ؛ كتب حلمي سالم عن محاولات إذابة الجلطة ؛ وعن أصدقائه الذين مروا بتجارب مماثلة مثل د. جابر عصفور؛ وصلاح عيسى ؛ ومحمود الشاذلي وغيرهم . ويقول د.جابر عصفور في مقدمته للديوان " عنوان هذا الديوان ليس باستغرب من شاعر كتب الغرام المسلح وسعي إبداعيا دون أقرانه من شعراء السبعينيات في مصر إلي وصل التجربة الإبداعية والتجربة الحياتية وصلا حميما لا يخلو من جمالياته الخاصة وملائمة المائدة التي أضاف إليها "حلمي " تنظيراته التي جعلت منه أكثر شعراء السبعينيات تنظيرا إلي جانب كونه من أكثرهم في الإنتاج . وقد سبقني حلمي سالم إلي معاناة محنة ؛جلطة المخ ؛ التي أقلقتنا عليه ولكنه قاومها بضراوة المبدع الذي يتعلق بالحياة التي يعبها عبا ولا يقيها بملاعق القهوة كما فعل سلفه ألفريدبروفروك قناع إليوت الشهير ". مغامرة الكتابة وقد ظل الشعر هو زاده وزواده حتي اللحظات الأخيرة من حياته؛ فقد مر بتجربة مرضية خطيرة ؛ حيث تم استئصال ورم سرطاني لعين من رئته. ؛ ولم تمر أسابيع علي شفائه حتي اكتشف إصابته بالفشل الكلوي ؛ ومع ذلك لم يستسلم "حلمي " للمرض بل حول معاناته إلي شعر جميل ؛ بل إنه كان لايحب أن نعامله نحن أصدقاءه وزملاءه علي أنه مريض ؛ وكان حتي يوم رحيله حريصا علي الحضور إلي العمل ؛ حتي وإن كان في ذلك خطورة علي صحته ؛ وقد قال لي قبل وفاته بأسبوعين أنه كتب ديوانا عن تجربته المرضية وأسماه " معجزة الفص "فقلت له " أن كلمة الفص بها نوع من الغموض الذي لايمكن القاريء من فهم المقصود منها في العنوان وعليه أن يفكر في تغييرها ". وفي المساء وجدته يهاتفني ويخبرني أنه غير الكلمة بناء علي اقتراحي ليصبح عنوان الديوان " معجزة التنفس " ؛ وقد طلب مني إقامة أمسية شعرية في مجلة " أدب ونقد " ليقرأ فيها الديوان ؛ وبالفعل بدأت في التجهيز للندوة والتي كان مقررا لها أن تقام يوم الأربعاء ؛ إلا أنه في صباح يوم الثلاثاء ؛ حين ذهبت إلي مقر المجلة أخبرني الزملاء أن حلمي قد نزف كثيرا أثناء جلسة الغسيل الكلوي ؛ فاتصلت به لأطمئن عليه واحذره من الحضور إلي الندوة وهو مريض علي هذه الدرجة ؛ لأني أعرفه جيدا ؛بحكم أنني كنت من أقرب أصدقائه إليه في السنوات الأخيرة وتلميذه الأول ؛ لكنه أجابني بإجابة أعرفها جيدا ؛ وقال لي بالحرف الواحد :" سآتي إلي الندوة فقد مضيت إقرارا علي نفسي بعد أن منعني الطبيب من الخروج من المستشفي وقلت له إنني ذاهب لأقول شعرا ". وفي يوم الأمسية تجلي حلمي سالم وأنشد قصائده ؛ كعادته ؛ بقوة ؛ وسط حضور جماهيري كبير خاصة من أصدقائه الذين رافقوه رحلة الحياة بداية من مدرسة الراهب الابتدائية بشبين الكوم حتي شعراء الجيل الجديد . وكأنه جاء ليودع الحياة بقصيدة شعر . مزج فيها بين الشخصي والعام ؛ بين الواقعي والفلسفي ؛ بين الحس الثوري الذي تميز به خطابه الشعري وبين الغموض الشفيف الذي يحمل دلالات متعددة. معجزة التنفس ويعد ديوان " معجزة التنفس " بمثابة خلاصة التجربة الشعرية لحلمي سالم حيث يحمل في طياته كل تقنياته الفنية التي لازمته طوال تجربته الشعرية . ومنها تضفير التراثي بالآني و الرمزي بالواقعي؛ والمراوحة بين جزالة اللغة الفصحي وفضاء اللغة الشعبية . بين الشعر الخالص والشعر ذي التوجه السياسي ؛ والانتقال من الخاص إلي العام والعكس ؛ ولعل هذا ما نلحظه في أول قصائد الديوان والتي أسماها " أجنحة " ؛ والتي احتوت علي كل الخصائص التي ذكرتها في سطور قليلة ؛ وفيها يقول : "هذا هو الفص / الذي يحمل تكاثر الخلايا /ويوزعها علي المعوزين /قلت للخلايا : ألهاكم التكاثر ؛/ أطلت علي الغبشة وجوه آبائي ؛ عبد المطلب ؛ منعم ؛ موافي ؛ الشايب ؛ عنتر ؛ سليمان ؛ اليماني ؛ /يفردون أجنحة ملونة / لكي أطير بها إلي ماسبيرو/حيث دبابة مرت / علي بطن الفتي /وقت أن لمع الصليب/ فوق الصدر ". ويبدو من هذا النص الافتتاحي أن الشاعر أراد أن يقول كل شيء رآه وهو مغيب عن الحياة عند إجراء العملية الجراحية له ، فكل شيء رآه فالواقع من سطوة العسكر وماحدث في أحداث ماسبيرو ؛ حيث لا فرق بين الخلايا المتآكلة في جسد الشاعر وبين الوطن المهتريء . وتأتي القصائد التالية كتنويع علي التيمة ؛ باتساع أكثر في الجمل ؛وبحركة أوسع للقناع الشعري كما في قصيدة " الجسر " والتي يقول في مطلعها : " سري المخدر الكلي فصرت في محيط مجلس ا لوزراء؛ قالوا : ماذا تري ؟ قلت : أري جنودا هوامين علي ذؤبات غابات ؛ لهم زعانف وخشية تضرب العابرين علي أكبادهم وهي عليلة . سري مشرط في الضلوع فصرت قدام البرلمان ؛ قالوا : ماذا تري ؟ ؛ قلت : أري القدم الحديدية دواسة علي حديقة النباتات ." تستمر القصيدة علي هذه المراوحة بين ضدين زمانيا ومكانيا عبر لغة تقترب ؛ في نهايتها ؛ من تخوم اللغة الصوفية ؛ رغم قسوة المشهد : الذي يظهر التحولات العاصفة التي شهدتها الثورة المصرية : أري صبية مبقورين بسنجة ؛ بينما الذقون تجهز حلقة ذكر؛ حتى يخرج الميت من الحي ويخرج الحي من الميت ؛ بينما الأسياد يستلون الزيت والبطاطس من زكاة بيت المال ليشتروا بها أنف كليوباترا . ثم يدخل الخطاب الشعري في حالة صوفية ؛ أظنها ؛ احدي حالات المواجهة لدي حلمي سالم مثله في ذلك مثل صلاح عبد الصبور؛حيث يقول : سمعت صوت أمي من وراء حجاب ؛ تقول : ياابن بطني ستأتيك نقطة فاصلة وأنت في منزلة بين المنزلتين ؛ تري فيها النفري سليما إذ هو صاحب البحر والمخاطرة والنجاة ؛ وإذ هو قاهر البلاء بالحرف ؛ وإذ هو أمير الجيوش وفي قصيدة " رسم قلب " يستحضر الشاعر ما مر به من لحظات خطرة ؛ " رسم القلب / يشير إلي سكاكين الزمان / 2005 الريشة التي مست المخ/ لكن أنفاس الأحباء ؛ ذوبت شلل العين والساق والذراع / 2007: قفاطين يطلبون رأسي ؛ / لأنني قلت إن الله أوسع من مخاليقه . " إشارة إلي واقعة مصادرته والدعاوي القضائية التي أقيمت ضده بسبب قصيدته " شرفة ليلي مراد " ؛ والتي كتب عنها ديوانا كاملا أسماه " الشاعر والشيخ " ويبدو أن شاعرنا كان يحس بالنهاية فكتب يقول في قصيدة " النبع " يأتي عوادون من جلطة المخ : ويأتي عازفو بيانو من عجز كليتين؛ كل بكاء يحمل الآلة تحت الإبط ؛ وفي أطراف الأصابع شارات الخسارة.