لا شك في أن طرح موضوع الأجور والأسعار للنقاش المجتمعي «سياسي - اقتصادي - اجتماعي» هو طرح مفيد ومتجدد، فعلي المستويين الاقتصادي والاجتماعي لم تنقطع المناقشة علي مدار تاريخ الفكر الاقتصادي، حيث كان الحديث في ظل الفكر التقليدي عن ضرورة التمسك بالحد الأدني اللازم لاستمرار العامل وبقائه كقوة عمل منتجة، في ظل ما عرف بالقانون الجديد للأجور، ثم جاءت أطروحات كارل ماركس لتكشف لنا هذا الاستغلال الذي تتعرض له الطبقة العاملة، وفي ظل الأفكار الكنزية والتي نادي بها جون ماينارد كينز يكشف لنا هذا الاقتصادي العظيم ضرورة وجود القوة الشرائية في يد المستهلكين وحتي نخلق الطلب علي المنتجات لكي تستمر عملية الإنتاج وتشهد ما تشهده من إعادة تدوير لرءوس الأموال في محاولة للخروج من الأزمة التي تعرض لها الاقتصاد العالمي، منذ أكتوبر 1929 ولسنوات تالية، وتكتمل هذه المرحلة من الأفكار بقيام «كينز» بتجمع ما تم نشره وإصداره في الكتاب الأشهر «النظرية العامة للفائدة والنوظف والنقود 1936، وتستمر محاولات العلاج فنجد الدول الرأسمالية المتقدمة نأخذ عن النظام الاشتراكي مجموعة من المبادئ أصبحت فيما بعد تشكل جوهرا للنظام الرأسمالي ونقصد منها تحديد الحد الأدني للأجور، تحديد ساعات العمل للعامل في اليوم، نظام للتأمين الصحي، نظام لإعانة البطالة.. إن هذه الأفكار الاشتراكية والتي استعان بها النظام الرأسمالي لتجديد نفسه والحفاظ علي بقائه تثبت لنا بالضرورة أن الفكر الاجتماعي سواء اشتراكيا أو رأسماليا في حالة تكيف دائم ومستمر مع واقعه الإنتاجي وأن استمرار منظومة الإنتاج بشكل خاص يجب أن تراعي «ولا أقول تأخذ بالمرة» مطالب الجماهير العريضة حرصا علي هذه المنظومة وضمانا لبقاء استمرارها بل وتجنيبها الأزمات والتي غالبا ما يكون سببها عدم تكيف الفكر مع الواقع، أو مخالفة الواقع للفكر المستقر مثلما حدث في الأزمة المالية العالمية الأخيرة حينما سعت مصارف الولاياتالمتحدةالأمريكية للربحية تضحية بالمعايير الصحيحة للإقراض وبالتالي معايير السيولة. وجدت أن هذا التقديم بمثابة ضرورة للدخول إلي الحديث الخاص بقضية الأجور والأسعار في ظل الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري في هذا الشأن، إن أطروحتي في هذا المقال تقوم علي خمس نقاط أساسية وهذا ليس معناه أن النقاط الخمس تمثل فيصل القول في هذا الموضوع المهم والذي يحتاج لاجتهادات أخري، وأعتقد أن جميع القوي الوطنية مهتمة به وأن الباب مفتوح لتقديم الاجتهادات والحلول والبدائل الممكنة، وهذا ليس أمرا غريبا فالأجور والأسعار وعلاقتهما بالتنمية هي قضايا وطنية كما أن المطالب الفئوية لا يجب أن تشغلنا عن كون هذه القضايا هي بالأساس تمس أمن وسلامة الوطن لذلك فإن الحوار الهادئ والموضوعي يمثل أحد أهم أدوات الوصول لحلول مقبولة من قوي المجتمع، ومن ناحية أخري فإن طرح هذه القضية «الأجور والأسعار» أعتقد بأن من يفكرون علي نحو تقدمي «يناقش ويوافق ويختلف، وفي ضميره ووجدانه نصرة المظلومين» هم الأولي بالمبادرة للدخول في هذا النقاش، أما هؤلاء الذين إذا اختلفوا اتهموا من يخالفونهم بأنهم جهلاء، فلهم الله من قبل ومن بعد. أولا: الحد الأدني للأجور مطلب اقتصادي أن الحد الأدني للأجور مسألة لا تتعلق بمن يعملون في الجهاز الإداري وأجهزة الحكم المحلي والهيئات الخدمية فقط، وإنما هي مسألة تتعلق بجميع العاملين علي الأراضي المصرية سواء كانوا عاملين في القطاع العام بمفهومه الواسع أو في القطاع الخاص، إن إثارة الموضوع بحسب طبيعة رب العمل «عام أو خاص» يقتضي معها الأمر أن نناقش كل فرع من الفرعين من جنس طريقة التمويل بشكل مختلف، فعلي مستوي القطاع العام «حكومي - حكم محلي - هيئات خدمية» والتي بلغ إجمالي الإنفاق علي بند الأجور وتعويضات العاملين فيها كما في مشروع موازنة 2010/2011 6.94 مليار جنيه مصري وهو مبلغ يزيد قليلا عن فوائد الدين العام والتي بلغت عن ذات العام 6.90 مليار جنيه يجب أن يعادل هيكل توزيع هذا المبلغ بحيث تكون الفجوة من الحد الأدني والحد الأعلي بمدي لا يزيد علي العشرة أمثال. مع إعادة هيكلة العاملين في هذا القطاع بهدف زيادة الإنتاج، وطبيعة الحال المسئول عن هذه الزيادة هو صاحب العمل وفي هذه الحالة هي الحكومة، فالحكومات الجيدة يجب أن تحسن من الكفاءة الإنتاجية للعاملين فيها. ثانيا: إن الحد الأدني للأجور مطلب اجتماعي أن متوسط أجر العامل في الحكومة في ظل هذا المبلغ المقترح في الموازنة العامة للدولة يقرر بأن المتوسط الحسابي للأجر الشهري في الحكومة بفرض أن عدد العاملين فيها 5.5 مليون عامل، تصل بهذا المتوسط لمبلغ 1433 جنيها في الشهر لاحظ أن الحد الأدني الذي تطالب به أغلب القوي الوطنية هو 1200 جنيه أي أقل من المتوسط الحسابي، وأن المدي بين 90 جنيها أو مائة جنيه، وهذا المتوسط يمثل انحرافا ملموسا في توزيع الأجور وهيكلها الذي يجب أن يعدل بتشريعات قانونية نأخذ في اعتبارها الحد الأدني وما به أغلبية من تغيرات واجبة بسبب اكتساب الخبرة وزيادة الأعباء الاجتماعية، إن إعادة الهيكلة سوف يترتب عليها خفض التمويل اللازم لمواجهة قضية الحد الأدني، أما باقي التمويل اللازم فيجب بل وتشدد بأنه تمويل ليس تضخميا أي من مصادر تمويل حقيقية حتي لا تنعكس الزيادة في الأجور في شكل موجات تضخمية وألا نكون قد أعطينا «أي الحكومة» باليمين وأخذت منهم بالشمال. ثالثا: أن الحد الأدني للأجور هو مطلب لصالح القطاع الخاص أما القطاع الخاص والذي يساهم في تنفيذ ثلثي استثمارات الخطة.. فنقول إن استمرار المشروع في دنيا الأعمال لا يتوقف علي عامل وحيد، وليس بالربحية فقط تستمر المشروعات في دنيا الأعمال، وأن استمرار المشروع في دنيا الأعمال يتوقف علي وجود الطلب الكلي ومستواه، ومن أين لنا بزيادة الطلب الكلي إلا من خلال أجور حقيقية تحفز من لديهم الرغبة في الشراء، وبعبارة أخري فإن مصلحة المشروعات الخاصة والجادة الاستمرار وتصريف منتجاتها تكمن في وجود القوة الشرائية من قبل الكتلة السكانية ومستوي دخل هذه الكتلة، وهنا ليس من المفيد أن يقوم صاحب رأس المال بالنظر للعاملين لديه فقط، وإنما يجب أن ينشغل بالكتلة السكانية كاملة لأن منتجاته سوف يطلبها العاملون لديه والعاملون لدي الآخرين. رابعا: أن الحد الأدني للأجور يجب أن يرتبط بارتفاع الأسعار إن ربط الحد الأدني للأجور، وبالتالي باقي جدول المرتبات، يجب أن يرتبط بمستوي أسعار السلع والخدمات، أي أن تحديد هذا الحد يجب أن يخضع من قبل المجلس الأعلي للأجور والأسعار للمراجعة السنوية في ضوء الرقم القياسي لأسعار المستهلكين، بحيث تتم زيادته بالمعدل المعلن عن الرقم القياسي لأسعار المستهلكين وحالة عدم وجود تحسن في مستوي المعيشة والحفاظ فقط علي المستوي المتحقق، أما وأنه من المفترض أن يكون هناك تحسن، فيجب أن تكون الزيادة بمعدل أعلي وعلي أن يكون ذلك بمثابة إلزام قانوني دون مناقشة، وتظل المناقشات حول مدي دقة وصحة رقم المستوي العام للأسعار. خامسا: الحد الأدني للأجور ونفقات الأسرة حسبما أسفرت عنه تحديث دراسة اللجنة الاقتصادية وأمانة العمال يقتضي أن يكون الحد الأدني للأجور هو ذلك الحد للأسرة المكونة من أربعة أفراد هي 1200 جنيه شهريا «زوج وزوجة وعدد 2 طفل»، ونطالب بهذا الحد كحد أدني حتي لمن يستوفي شرط الإعالة بحكم أنه سوف يقدم علي خطوة الزواج وما تحتاجه هذه الخطوة من نفقات استثنائية «غير دورية»، أما بالنسبة لأصحاب المعاشات هؤلاء الذين أفنوا حياتهم سواء للدولة أو في القطاع الخاص فيجب أن يعاد النظر فيما يحصلون عليه من معاشات، وهنا أيضا ستكون هناك معالجة مختلفة لمن هم كانوا مشتركين في صندوق القطاع العام، أو كانوا مشتركين في صندوق القطاع الخاص ورؤيتنا التي سنعرضها في عدد قادم لن يترتب عليها أي أعباء علي المنتفعين أو أصحاب الأعمال، وإنما ستفرز المعالجة علي الطريقة التي تمت بها إدارة الأموال في الصندوقين وإعطاء كل صاحب حق حقه.