يبدو أن روسياوتركيا ذاهبتان إلى تصعيد خطير على جبهتين، للعب الدور الرئيس فى هاتين الجبهتين فى الشرق الأوسط، هذه اللعبة تلعبها هاتان الدولتان على مدى عدة قرون، والأمور تسير بشكل عادى وتنافس طبيعى بين الدول، وكان التناحر مع روسيا أحد الأسباب الرئيسية لانضمام تركيا لحلف الناتو، لكن فى الأسبوعين الأخيرين حدث تصعيد خطير، عندما أرسلت روسيا طائراتها القاذفة المقاتلة إلى ليبيا ( إدعاء غير مؤكد حتى الآن، لتسخين الغرب على روسيا) للمشاركة فى الحرب الدائرة فى ليبيا. لدى روسيا ذكريات بعيدة عن الأتراك كأعداء لدودين، تعود الذكريات الروسية إلى أيام حكم القياصرة، وحاربت روسيا الأتراك إبان الإمبراطورية العثمانية، فى حرب دموية فيما عرف بحرب القرم، حينها انتصرت تركيا، إلا أن روسيا استطاعت حالياً استعادة القرم، وتركيا حتى الآن لا تعترف بالقرم جزءا من روسيا، وهذا من نقاط الخلاف المهمة بين الدولتين، وكما فى السابق عندما كانت الأحلام الإمبراطورية للدولتين هي الدافع لقيام الحروب بينهما على مدى 400 عام، وأكثر من 12 حربًا، أخر هذه الحروب كانت الحرب العالمية الأولى، وحتى ثورة أكتوبر الاشتراكية بقيادة فلاديمير لينين، الذى وقع اتفاق سلام مع الأتراك تنازل لهم بمقتضاه عن منطقة كراس وأردجان والأهم جبل أرارات الذى يعتبره الأرمن جبلًا مقدسًا وحتى اليوم يطالبون به، وهو ما عرف باتفاقية كراسك عام 1921. أما قبل ذلك فقد كانت الحروب تندلع بين الإمبراطوريتين بمعدل كل 10 و20 عاماً، هو ما جعل الأحلام الإمبراطورية تعود من جديد فى القرن 21، بين الدولتين، أما سر العلاقة الحالية بينهما فهى اقتصادية بحتة، فروسيا محاصرة اقتصاديا من الأوروبيين والأمريكيين، وتركيا نفس الشيء بالنسبة لأوروبا، وهو ما جعل التقارب بين البلدين اقتصاديا بالدرجة الأولى، فروسيا لم تنس إسقاط طائرتها العسكرية، ولم تنس اغتيال السفير الروسى على الهواء فى قلب العاصمة التركية. الخلافات الدبلوماسية بين البلدين عميقة ولن تسيرا معاً للنهاية، فتركيا عضو الناتو، الذى انضمت إليه فى الأصل لحماية نفسها من روسيا لن تتخل عنه، كما أنه عند الضرورة ظهر انتماء تركيا للحلف عندما تلقت الضوء الأخضر من واشنطن بالتدخل فى ليبيا لم تتأخر، وذلك عندما شعر الحلف أن روسيا بدأت تتدخل من خلال شركة “فاجنر” ولسان حالهم يقول كفى أننا خدعنا فى سوريا، كما تدخلت روسيا فى سوريا قائلة كفى أننا خدعنا فى ليبيا. لكن تركياوروسيا، تحاولان الاستفادة من الوضع الدولى الحالى المعقد، من ضعف للاتحاد الأوروبى، وانكماش الولاياتالمتحدة وتركيز الصين على الداخل (هونج كونج الرإيجور التبت)، وانشغال العالم بالوباء الحالى يجعل روسيا تحاول أن تجد لنفسها دورًا مؤثرا وتقوى من مواقعها التى انتزعتها فى سوريا وتكتسب مواقع جديدة فى شمال افريقيا وفى أقرب نقطة من حلف الناتو، خاصة أن الغرب والناتو خدعها عندما وعد بمنطقة حظر طيران فى ليبيا 2011 ثم قام بعملية قصف أطاحت بنظام القذافى. عندما بدا أن سوريا تعانى وأن النظام على وشك السقوط عام 2011، تدخلت روسيا وتمكنت من تعديل الكفة لصالح الحكومة السورية ونظام الرئيس الأسد، حينها كان الأمل الوحيد لإحداث التوازن فى سوريا بعد التدخل الخاطف لروسيا، في شمال شرق سوريا، الذى يقطنه الأكراد، وكان لدى الولاياتالمتحدة عدد قليل جداً من القوات، وبذلك حجزت واشنطن لنفسها دورا فى الأزمة السورية فى أخر لحظة، وضمنت أمن وسلامة حلفائها المقاتلين الأكراد. غير أن ما حطم توازن القوى الهش فى سوريا ليس قصف الطائرات الروسية أو اقتحام القوات السورية للمنطقة الشرقية – الشمالية من سوريا، ولكن محادثة تليفونية مفاجئة من البيت الأبيض للرئيس التركى، جوهر المحادثة ينحصر فى أن الولاياتالمتحدة ستخرج من شمال – شرق سوريا تاركة المكان لتركيا، فيما عرف فيما بعد بالمنطقة الآمنة التى امتدت فيما بعد حتى شملت كل الحدود الشمالية لسوريا وحتى إدلب فى الفترة الأخيرة. لقد كان خروج القوات الأمريكية من سوريا هو دعوة لتركيا لفعل كل ما يحلو لها فى شمال – شرق سوريا. موسكووأنقرة اللتان تتنافسان اليوم من أجل النفوذ والنفط وتوسيع التواجد فى منطقة البحر المتوسط، تدخلان اليوم مرحلة جديدة من الصراع بينهما هذه المرة فى شمال أفريقيا، ليبيا المسرح الجديد لقياس مدى القوة والتأثير بينهما، وإذا كانت أنقرة قد أخذت على حين غرة حين تدخلت روسيا فى سوريا (كان إردوغان يحلم بالصلاة فى المسجد الأموى بدمشق)، ثم سحبت روسياتركيا خلفها لسوريا، مخافة تدهور العلاقات الاقتصادية مع أنقرة، وتحمل الرئيس بوتين أن تشاركه تركيا، لمصالح اقتصادية وسط مقاطعة أوروبية، فقد استطاعت تركيا أن تكون المبادرة فى الأزمة الليبية باتفاق مشبوه وقعته مع حكومة الوفاق، فهل ستقوم تركيا بمنح دور لروسيا، كما أعطتها الأخيرة دور فى سوريا، ربما هناك وعود واتفاقيات بين موسكووأنقرة تحت الطاولة، وإلا لماذا انسحبت روسيا (سحب شركة فاجنر)، وبدأت فى التفاهم مع حكومة السراج، حيث زارها نائب السراج، عقب التقدم الذى حققته قوات الوفاق. ورغم أن كلا من تركياوروسيا على طرفى النقيض فى الصراع الليبى، وتراهن تركيا على حكومة الوفاق فى طرابلس، بينما تراهن روسيا على المشير حفتر فى بنغازى، الذى يسعى إلى الاعتراف الدولى، وقد كان الأخير حتى وقت قريب قاب قوسين أو أدنى من دخول العاصمة طرابلس حيث توجد حكومة الوفاق لولا التدخل التركى بالمرتزقة والسلاح والخبراء، إلا أن تغير المواقف الدبلوماسية والدولية وإيعاز الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى لتركيا بالتدخل المباشر فى ليبيا، رغم الخلاف العميق بين ألمانيا وفرنسا من ناحية وتركيا من ناحية أخرى، بعد التواجد الروسى البين فى ليبيا، مخافة أن تطل روسيا برأسها على الاتحاد الأوروبى والناتو من أقرب نقطة لأوروبا (ليبيا)، حيث لو أقامت روسيا قاعدة عسكرية يستطيع مدفع ثقيل أو أى صاروخ قصير المدى أن يطال أوروبا. تقوم روسياوتركيا بتقوية ودعم حلفائهما فى ليبيا، ويقومان فى نفس الوقت بارتداء ثوب الداعى للسلام ولوقف إطلاق النار، والجلوس لمائدة التفاوض، وأنه لا حل سوى الحل السلمى والتفاوض، لكن كما تقول بعض وسائل الإعلام الغربية كل دعوات وقف القتال أو الهدنة هى لالتقاط الأنفاس ولجلب المتعاطفين فى المجتمع الدولى، أو على الأقل للدعوة للمشاركة فى الكعكة، وكما كان فى السابق الانجذاب لهذا الطرف او ذاك من أجل التعاطف سيصبح الانجذاب كلما اقترب موعد التفاوض على اساس حجم القطعة التى سيحصل عليها هذا الطرف أو ذاك من الكعكة الليبية. روسيا بتدخلها فى ليبيا، متعطشة لاستعادة العصر الذهبى للاتحاد السوفيتى فى تلك المنطقة والأهم هو الحصول على موقع جغرافى لو حصلت عليه روسيا ستنغص حياة الناتو وأوروبا وستستطيع مقايضة الأوروبيين على رفع او على الأقل تخفيف العقوبات، أما الرئيس التركى فيحلم بالمجد الغابر للامبرطورية العثمانية، لكن الأزمة فى أن كلاهما لديه مشاكل داخلية خانقة، حيث يتفشى فيروس كورونا فى كلا البلدين، كما أن الأوضاع الاقتصادية فيهما لا تترك لهما المجال للدخول فى مغامرات عسكرية طويلة ولا بد من ممول، وهنا على وجه الخصوص ليس أمام الرئيس التركى أفضل من هذه اللحظة لإلهاء المواطن عن مشاكله الداخلية بإشعال حرب فى الخارج. وتلعب تركيا والرئيس التركى على وجه الخصوص على التعصب القومى للشعب التركى. وبصرف النظر عن وجهة نظر أى طرف فى انغماسه فى النزاع الليبى أتصور أن مبادرة الرئيس السيسى لإحلال السلام جيدة ومتوازنة ومن الممكن أن تنهى النزاع، خاصة أنها تأتى من مصر الدولة التى لها حدود مشتركة مع ليبيا 1200 كم، وهى الأولى بتولى عملية تقريب وجهات النظر بين أطراف الأزمة.