ما يجري اليوم في المنطقة العربية ينبغي أن يتوقف حالا، وإلا سنشهد مزيدا من التفكك والخراب والفوضى، من العراق إلى الشمال الأفريقي. لقد التقى مسؤولون أمريكيون مع قائد الجيش الوطني الليبي، المشير خليفة حفتر، قبل يومين، وطلبوا منه وقف حملته العسكرية التي تستهدف تطهير العاصمة الليبية من الجماعات الإرهابية والمسلحة. لم يعرض الأمريكيون مساعدات لحفتر من أجل هزيمة المتطرفين، بل يبدو من موقفهم أنهم يؤيدون الحلف الذي ترعاه قطروتركيا ضد التوجه القومي العربي في ليبيا، ممثلا في “القوات المسلحة العربية الليبية”. طوال عقود كانت عواصم مثل القاهرة، وطرابلس الغرب، ودمشق، وبغداد، المحرك الرئيسي للباحثين عن مستقبل تحت مظلة عربية قوية. لكن النوايا الحسنة قضت عليها مؤامرات إقليمية ودولية. فكلما حاول العرب الالتفاف حول أنفسهم، والبحث عن مستقبلهم، تدخلت الألاعيب المعادية، للترويج ل”تحالف إسلامي”. لقد أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسي قبل نحو عامين، عن مشروع لإنشاء قوات عربية لمكافحة الإرهاب، لكن القوى الكبرى تدخلت لمنع هذا التوجه، ووقفت تلك القوى، بمساعدة أطراف إقليمية، بعضها عربي، وراء أطروحات ساذجة عن “قوات إسلامية”، وأشياء من هذا القبيل.. أطروحات هلامية غير قابلة للتحقق، ولا مستقبل لها. معروف منذ زمن أن التحالفين الرئيسيين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هما التحالف العربي والتحالف الإسلامي. وهذا الأخير يمتد إلى دول بعيدة في آسيا أيضا، وتهيمن عليه كل من إيرانوتركيا. وتغذيه دول خليجية بما فيها دويلة قطر. لهذا من الصعب أن يتم التعويل على التحالف الإسلامي في حل القضايا التي تتعلق بالحدود، والمياه، والنفط، وإسرائيل، وغيرها من محددات الأمن القومي في المنطقة العربية. لكن المشكلة هي أن بضعة تكتلات إقليمية وبضعة أهداف دولية، ترى في بث الزخم للتحالف الإسلامي، طوق نجاة يمكنه صد أي تعاون عربي مشترك. لهذا فإن تنظيما مثل التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، مرحب به في كثير من الدول المعادية للعرب. وينطبق الأمر على أنشطة مماثلة لتنظيمات إرهابية تعادي القومية العربية، مثل حزب التحرير الإسلامي، وتنظيم القاعدة وتنظيم داعش. كانت ملامح التحالف العربي قد ظهرت بشكل قوي على يد مجموعة من الضباط الذين كانوا يعملون في جيش الدولة العثمانية في مطلع القرن الماضي. وتلقف بضعة سياسيين من مصر وليبيا وسوريا والعراق، هذا التوجه، للبناء عليه.. وكان من بينهم، منذ عشرينيات القرن الماضي، الليبي بشير السعداوي، والمصري عبدالرحمن عزام، لكن المحاولات باءت بالفشل. وفي المقابل دعمت دول غربية وجود تكتلات إسلامية كالإخوان وحزب التحرير وغيرهما. حاول الرئيس جمال عبدالناصر بعث الروح العربية من جديد. ومن بعده أصيبت علاقة السادات بعديد من الدول العربية، بانتكاسة. تقول وثائق المخابرات الأمريكية إن السادات أراد أن يمسك في يديه بخيوط الحرب والسلام بين العرب وإسرائيل، إلا أن أطرافا عربية التفت من خلفه، وتواصلت، منفردة، مع الغرب وتل أبيب. لقد كان السادات يريد لمصر أن تقود العرب، لكن لم يكن هناك تأسيس قوي لمثل هذا التوجه. يبدو أن السادات مثل عبدالناصر، كان يعمل بعفوية ويتصرف بناء على المعطيات الآنية. وهذا لا يمكن البناء عليه لإستراتيجية تخص المنطقة العربية. لقد مرت المنطقة بمراحل شديدة التعقيد. فالحلف ذو الطابع الإسلامي، والذي ضرب جهود السادات لتوحيد المنطقة في بوتقة عربية متجانسة وقوية، هو نفس الحلف الذي اضطر السادات، في نهاية المطاف، للاستناد عليه داخليا، وهو حلف الإسلاميين ممثلا في جماعة الإخوان وما شابهها. أراد الرئيس مبارك أن يضع محددات للأمن القومي العربي، وأن يبني على هيكلية الجامعة العربية، مع العمل على تطويرها. وتمكن من إلزام الجامعة بعقد مؤتمرات دورية كل سنة لرؤساء الدول العربية وملوكها وأمرائها. لكن للأسف تعرضت جهوده لعراقيل جمة. في مرة من المرات كان مجلس الشعب المصري يناقش اتفاقيات ذات طابع دولي عام، منها اتفاقية الأممالمتحدة بشأن الملكية الفكرية، وأخرى بشأن الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. كانت برلمانات دول عربية أخرى تناقش الأمر نفسه في الوقت نفسه. سألت الدكتور فتحي سرور، الذي كان رئيسا للمجلس في ذلك الوقت: لماذا لا تتولى الجامعة العربية تجميع كل هذه الاتفاقيات، والتوقيع عليها مع الأطراف الدولية، نيابة عن الدول العربية؟ فضحك وقال: العالم يتعامل أصلا مع الجامعة العربية على مضض. لن توافق الدول الكبرى على أي دور للجامعة، إلا إذا كان يخدم مصالح تلك الدول. لسنوات طويلة كان معمر القذافي يفخر بوصف يقول إن جمال عبدالناصر منحه إياه قبل وفاته، وهو “أمين القومية العربية”. وللقذافي خطب موجودة على يوتيوب يحذر فيها منذ وقت مبكر من الغزاة الأجانب على بلاد العرب، إذا ما ظلوا متفرقين. وفي نهاية المطاف أصيب القذافي باليأس من تحقيق أطروحاته الخاصة بإزالة الحدود والخاصة بتكوين جيش عربي موحد وعملة نقدية عربية موحدة، وغيرها. ولهذا اتجه إلى الترويج لإقامة الولايات الأفريقية الموحدة. وكل ذلك انتهى بطبيعة الحال. جلس مسؤولون أمريكيون يوم الاثنين الماضي مع المشير حفتر، وطلبوا منه وقف محاولاته العسكرية لطرد الإرهابيين من طرابلس. فمن هم هؤلاء الإرهابيون يا ترى.. إنهم ينتمون للتيار نفسه المعادي للعرب. بعضهم قادة في المجلس الرئاسي وبعضهم وزراء في حكومة الوفاق المؤيدة من الغرب، يتلقون الدعم من تركيا ومن قطر ومن إيران، ولا يؤمنون بالدولة الوطنية ولا بالتكتل العربي.