«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



“أبناء الصدفة ” دنشواي وتراجيديا السقوط
نشر في الأهالي يوم 15 - 06 - 2019

هل هي الصدفة حقا، أم ترى أن لا صدفة، على الحقيقة، فيلجأ العقل للقول بها في حال انعدمت أنساق الأحداث من مقدمات وما يتلوها من نتائج، هل قامت الحرب العالمية الأولى لمجرد مصادفة اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند مع زوجته بيد طالب صربي، أم لأن سراييفو مشتعلة بدعاوى القومية السلافية المناهضة للقومية الجرمانية، ثم لدعم القيصرية الروسية لتلك الدعاوى ضد الأطماع الجرمانية التوسعية، ثم لصراع دببة الرأسمالية العالمية على المستعمرات ولحل أزمات الركود الاقتصادي.
فكان الظاهر صدفة ولكن وراء الصدفة الكثير والكثير من الأسباب المخفاة والمعلنة، وكما كانت الصدفة هناك في سراييفو، كانت الصدفة أيضا هنا في محطة قطارات طنطا، ليتأخر القطار وليقرر الهلباوي عدم الانتظار، صدفة أيضا، ولكنها أيضا حيلة عقلية، فتصرف الهلباوي لم يكن نابعا إلا من خلفية نفسية وفكرية وقائمة أولويات، كان البند الأول فيها تحقيق المصلحة والمنفعة الشخصية وفقط، وعليه فتستوي لديه المتناقضات كلها، طالما تواجدت المصلحة، فدافع الهلباوي في تصديه للدفاع عن الفلاحين في البداية، كان لكونه شيخا للمحامين فيحتم عليه الظهور على ساحة الأحداث في قضية ملتهبة كتلك، الظهور وفقط، والظهور سيحدث سواء دافع عن الفلاحين أو كان مدعيا عموميا لصالح الإنجليز، أم تراه الاحتراف وفقط والنظر في الأوراق وفقط، وعلام نستبق الأحداث؟
ينظر الهلباوي لوكيله ويأمره بحجز تذكرة إياب للقاهرة، يردد الهلباوي لنفسه “فلنرسل أحد المحامين العاملين في مكتبي وهم بالعشرات، وحضور تحقيق لا يتطلب حضوري شخصيا، ما زالت التحقيقات قائمة، والذهاب للبتانون أمر شاق و عسر. ”
- الإعلانات -
ما أن يستقر الهلباوي بمكتبه في القاهرة، إلا ويطلب الدخول عليه كبير ياوران مصطفى فهمي باشا، يطلب من الهلباوي مقابلته بمقر رئاسة الوزراء، يصارحه الباشا برغبة الإنجليز في أن يتولى الهلباوي دور المدعي العمومي ضد فلاحي دنشواي، ومقر المحكمة سيكون في مدينة شبين الكوم ليس في قرية البتانون بطرقها الترابية ومواصلاتها السيئة والشحيحة، وبحسبة موازين القوى والمصلحة، مع الاعتبار أن دولة الباشا رئيس الوزراء قد اختاره هو ولم يختر صهره سعد زغلول، كان فيه الكثير من المغازلة لغروره، وكيده لغريمه اللدود.
وهو قد عاهد نفسه من زمن على عدم الانحياز للجماهير بعواطفها الفوارة، والتي دائما تنتهي إلى العدم، فليقف حيث الكفة الراجحة حيث مزيد من الشهرة والسطوة ومنصب وزير حقانية أو رئيس وزراء ليس ببعيد فالإنجليز لن ينسوا من وقف بجانبهم، والجماهير ستنسى إن عاجلا أو آجلا، فقط بعض الشعارات والحيل، يوافق الهلباوي بل ويخفض أتعابه من خمسمائة إلى ثلاثمائة جنيه .
شكلت محكمة مخصوصة بموجب مرسوم صادر1895 يقضي بتشكيل مجالس عسكرية استثنائية لمحاكمة من يعتدي على جيش الإنجليز، ويحتم المرسوم على البوليس حين تقديم المتهمين إلى القضاء أن يختار محاميا لاثبات التهمة أي “مدعيا عموميا” .
يترافع الهلباوي، ولأول مرة يطالب محامي الظروف المخففة بتطبيق أقصى عقوبة ممكنة، يدعي الفلاحون أن الإنجليز جاءوا ليصيدوا الحمام الذي يعد ملكية خاصة لهم، وأشعلوا النار في جرن القمح ليضيع مجهود زراعته، ثم قتلوا ” أم محمد” .
فضربوهم بالشوم ليفر الكابتن بول، فيصاب بضربة شمس، يموت على إثرها، بعد محاولات من الفلاحين أنفسهم لإسعافه ولتقديم الماء له حين احتضاره، فأين الجريمة؟ (تزعم بعض الروايات أن الكابتن أخذ يعدو ثماني كيلو مترات في أجواء شديدة الحرارة، حتى سقط الكابتن صريعا بقرية “سرسنا” المجاورة ل”دنشواي”! ).
يترافع الهلباوي، ليصف الفلاحين بالعصابة الهمجية، ويطالب المحكمة بأن تحكم “بأشد عقوبة ليس فقط لمصلحة الروح التي ذهبت وأصابها من الآلام قبل إزهاقها ما أصابها، ولا في مصلحة الضباط الآخرين الذين جرحوا، ولكن في مصلحة الشعب المصري.” وطالب القضاة “بأن يرفعوا من قلوبهم كل رحمة، وذلك للظروف السيئة التي وقعت فيها هذه الحادثة.”
وأسدى الشكر للاحتلال وما يقدمه لمصر فقد “حرر المصري، فترقى وعرف مبادئ الواجبات الاجتماعية والحقوق المدنية ” ثم قنن موقف الضباط الإنجليز، فهم قد”سلكوا مسلكا شرعيا في كل شيء فاخطروا الجهات الإدارية بأنهم ذاهبون للصيد، ودلهم أهالي الناحية أنفسهم على دنشواي، وأخذوا الإذن بالصيد لهم من الأهالي .”
ويصف الميجور كوفين، الضابط الثاني الذي جرح، بأنه “الشهم الذي أقام ثلاثين شهرا، يحارب بشهامة، ويقابل المصاعب فينتصر من واقعة لأخرى من بريتوريا إلى غيرها” وأن هذا البطل قد سلم سلاحه” راضيا بالهزيمة أمام أولئك الفلاحين الهمج الذين لا يعرفون للشهامة معنى، أمام أناس كان يظن أن للشر حدودا تنتهي عندها فخابت آماله كما خابت آمالنا فيهم” فاتهم الفلاحين بأنهم سلبوا ساعة الضابط وأنهم ما اعتدوا عليه إلا بغرض السلب والنهب. ”
كان دفاع الهلباوي عن الضباط الإنجليز قائما على أنهم صادقون بالفطرة، أما الأهالي فكاذبون بالفطرة أيضا “فلا غرابة إذا أخذنا بشهادتهم وقد كانت كل كلمة من أقوالهم أمامكم في الجلسة، شاهدة على أنهم نسوا كل شيء إلا العبودية للحقيقة”.
ثم استخدم كل مهارته وبلاغته، ليثبت توفر ركن “سبق الإصرار والترصد” معتمدا على واقعة أثبتها أحد الشهود بأن “حسن محفوظ” أحد المتهمين قال للضابط “مش لازم تصطادوا.. وإلا تعرفوا شغلكوا.”
“ذلك أن نتيجة تعديهم فسرت معنى كلمة “تعرفوا شغلكم”، وأن خبر وصول الإنجليز كان معروفا للفلاحين وهذا يعني أنهم قد خططوا للترصد بالجنود، وأن التعدي على الضباط لم يكن نتيجة لاستفزاز الموقف، لأن “أم محمد” لم تصب برصاصة طائشة ” وإنما أصيبت نتيجة للصراع الذي وقع بين الضباط والفلاحين حول البندقية، فانطلقت الرصاصة وأصابتها، وليس من المعقول أن الضابط سيترك الرجال ويضرب امرأة.”
وعن ادعاء الفلاحين ملكيتهم الشخصية للحمام فباطل لكونه يأكل من الأرزاق العامة ولا يقدم له أحد بعينه الطعام، فهو من الأموال المباحة.
وعن حرق جرن القمح فإن الفلاحين هم من أحدثوه عمدا، وألصقوه بالضباط ليبرروا الاعتداء عليهم، ودلل على ذلك بأنه أجرى تجربة بإطلاق النار على الجرن فلم يشتعل “التبن” بفعل رصاصة، وتفسير ذلك أن الفلاحين قد افتعلوا ذلك بأنفسهم لإخفاء دلائل سبق الإصرار، ليختم الهلباوي مرافعته قائلا “نحن أمام محكمة مخصوصة غير مقيدة بالقانون، لأن المشرع لاحظ أنه توجد بعض حوادث استثنائية وأن العقوبة يجب أن تكون على قدر هذه الحوادث وكل الشرائع تثبت أننا محقون في طلبنا، منها القانون الفرنسي، والقانون الإنجليزي، وهذا يقضي بالإعدام دون أن يشترط سبق الإصرار فلكم تطبيقه إذا فرض أن لا إصرار هناك، بل يمكنكم تطبيق قانون أى أمة تجدون فيه مصلحة الأمن العام، والشريعة الإسلامية والقانون الإنجليزي في هذا الموضوع يستويان، ولا يمكن لأحد أن يعترض لأن البلاد إسلامية .”
لم يترك الهلباوي محامي الظروف المخففة ثغرة تنفد منها رقاب المساكين من حبل المشنقة، هل تراه كان يقصد إعدامهم، أم كان يظن أن القضية سياسية في المقام الأول، وستنتهي بحل و انفراجة سياسية ما، أم تراها شهوة الحجاج والبلاغة أنسته أن ملامح أولئك القابعين وراء القضبان فيها الكثير من ملامحه و ملامح أبيه، قد شاهد هذا البؤس يوما بعيدا منحوتا في وجوه إخوانه وأعمامه، قد سمع هذا الأنين يوما ترجعه أمه وأخواته..
ينهي الهلباوي مرافعته ليصدر بطرس باشا غالي حكمه، فكان كالتالي:
أولا: حسن على محفوظ، ويوسف حسن سليم، والسيد عيسى سليم، ومحمد درويش زهران.. بالإعدام شنقا.
ثانيا: محمد عبد النبي، مؤذن القرية، وأحمد عبد العال محفوظ.. بالأشغال الشاقة المؤبدة.
ثالثا: أحمد محمد السيسي.. بالأشغال الشاقة 15 سنة.
رابعا: محمد على أبو سمك، وعبده البقلي، وعلى شعلان، ومحمد محفوظ، ورسلان السيد علي، والعيسوى محمد محفوظ.. بالأشغال الشاقة 7 سنوات.
خامسا: حسن إسماعيل السيسي، وإبراهيم حسنين السيسي، ومحمد الغباشى السيد علي.. بالحبس مع الشغل سنة واحدة.. وبجلد كل واحد منهم خمسين جلدة.. وأن ينفذ الجلد بقرية دنشواى فى ساعتها!
سادسا: السيد العوفي، وعزب عمر محفوظ، والسيد سليمان خير الله، وعبد الهادى شاهين، ومحمد أحمد السيسي.. بجلد كل واحد منهم خمسين جلدة بالقرية.. مع تكليف مدير المنوفية بتنفيذ الحكم فورا..”
“وهكذا، يكون عدد الأهالي الذين حكم عليهم فى مذبحة دنشواي 21 منهم ثلاثة من عائلة محفوظ.. واثنان من عائلة سليم.. لكن العائلة التى حظيت بالعدد الأكبر وهو أربعة أحكام كانت عائلة السيسي.. وهم: أحمد محمد السيسي.. وحسن إسماعيل السيسي.. وإبراهيم حسنين السيسي.. ومحمد أحمد السيسي.”
لم يفرح الهلباوي ولم يبتهج ككل مرة يكسب فيها حكما لصالحه، ساعتها فقط حين سمع أنين ذوي الفلاحين و بكائهم، علم أنه قد أصدر حكما لا هوادة فيه على نفسه وسنين عمره القادمة بل وعلى تاريخه كله، ساعتها فقط تذكر أنه كان من الأجدر به انتظار القطار .
وها هي الإمبراطورية العظمى التي لا تغرب عنها الشمس تنكل بكل بطشها بحفنة من الفلاحين الذين لم تعرف بطونهم شبعا، ولا أقدامهم حذاء، من محاكمتهم بشبين الكوم تقودهم في أغلالهم وتحت وقع السياط على مرأى ومسمع من ذويهم وأبنائهم وزوجاتهم الذين لم ينقطع عويلهم وصراخهم، تمر بهم على قرى المنوفية قرية قرية عبرة لمن يفكر في مس جندي من جنودها بسوء، حتى يصلوا إلى مقر تنفيذ الأحكام قريتهم دنشواي التي سمعت مواويلهم وضحكاتهم واهتزت لضربات فؤوسهم لتخرج قمحا وقطنا لم يكن يوما لهم، سكنت في ليالي الزمهرير لأنس حكاويهم حول نيران الركية وبخار الشاي الأسود يتراقص حول أكوابهم الصفيح الصغيرة.. وعلى مرأى من سنابل القمح وأعواد البرسيم نصبت المشانق وأقيمت عرائس الجلد، بين كل جسدين يتدليان في حبل مشنقة يجلد بائس، يقول ويليم بلانت في تقريره الذي قدمه لمجلس العموم البريطاني عام 1907 “وقامت هناك منصة كبيرة.. يبلغ علوها 30 قدما.. ولا تزيد مساحتها على مترين.. وربطوا حبلا كبيرا يكفي لتصيد فيل كبير.. وقد غصت سطوح الأكواخ بالنساء النائحات.. ثم صحن صيحات الرعد لما أبصرن معدات الإعدام قد نصبت”.
وكانت المشنقة على مسافة 30 خطوة من الأجران التى كان يتصاعد منها دخان من بقية النار.. وأخشاب المشنقة على مرأى من القرى المجاورة.. وجماعات من الناس وقفوا على مسافات بعيدة لمشاهدة هذا المشهد المخيف. أما العساكر الذين صفوا للحراسة فلم تظهر على وجوههم دلائل الانقباض.. وتوالى التنفيذ.. وكان الكرباج يهوى على الأجساد.. والألم يوجب صراخا.. وجماعة من المصورين و الصحفيين يراقبون المشهد وينتظرون.. وأيديهم على أزرار آلات التصوير.. وهكذا توالت الإعدامات.. والجلد.. والصرخات.. في مشهد لن ينساه التاريخ ”
تتجاهل صفحات التاريخ هذا المشهد غيرة على العزة الوطنية، ولكنها المشاعر الإنسانية بلا مواربة ولا تجمل، وماذا كان ينتظر المؤرخون منهم غير مشاعر الخوف والترجي والرغبة في الحياة بل والبكاء والصراخ حيال موقف صعب لم يرد في مخيلة أحدهم يوما، وهم البسطاء الذين لم تبارح أقدامهم حدود قريتهم يوما .
المشنوق الأول كان حسن محفوظ 65 عاما، يعتلي سلم المشنقة ويستدير نحو قريته، يودع الحقول وأهله ويصيح “إنا لله و إنا إليه راجعون، الله يخرب بيتك يا شاذلي… الله يخرب بيتك يا محمد يا شاذلي” و محمد الشاذلي كان عمدة قريتهم الذي سلمه، وفي ثواني يتدلى جسد محفوظ مشنوقا .
“إبراهيم السيسي” يصرخ تحت ضربات السوط المنهالة على ظهره العاري ليصرخ “سقت عليكم النبي.. سقت عليكم النبي ياهوه.. اشنقوني أحسن والنبي ..” ليغشى عليه ويستمر جلده.
“يوسف سليم” المشنوق الثاني، يصيح من على مشنقته “اللهم انتقم من الظالمين، اللهم انتقم من الظالمين” ما هي إلا لحظات ويتأرج جسده المعلق بحبل مشنقته ذات اليمين وذات اليسار..
ويصرخ “حسن العوفي” تحت وقع السياط “في عرض الأفندي.. في عرض الأفندي..”
بينما لم ينطق “عزب محفوظ” بكلمة يصرخ متأوها مع كل جلدة، ثم يأخذ في النباح في نوبة من السعار ..
يتقدم “محمد دريش زهران” للمشنقة، وكان قد نفد صبره، فيصرخ في وجه “عشماوي” “شهل ياخي… شهل”.
تكتب المؤيد (فهوت مع زهران قلوب النساء المتفجرات ولطمن الخدود.. وترك معلقا في الهواء.. تذروه الرياح.. يمينا وشمالا.. أقمن المناحات، أخذن يبكين رجالا يصرن بعدهن أيامى، وينظرن إلى صغار سيكونون بعد آبائهم يتامى، فهن نارا حامية، وهم في البؤس خالدون.)
يكتب العقاد “كنا أربعة نقرأ وصف التنفيذ في أسوان فأغمي على واحد منا، ولم نستطع إتمام القراءة، إلا بصوت تخنقه العبرات “.
ويسخر “برنارد شو” من عدالة الإمبراطورية العظمى، ويقدر جهودها بحثًا عن «بروجرام» تسلي به جمهور المشاهدين لحفلة الإعدام لتحول بينهم وبين الملل خلال نصف الساعة الذى كان مفروضًا أن يظل فيه جسد المشنوق معلقًا للتأكد من موته .
تقام المآتم في أنحاء مصر، وتصب الصحف لعنتها على أربعة اللورد كرومر ممثل الاحتلال، بطرس غالي رئيس المحكمة، فتحي زغلول، شقيق سعد زغلول عضو هيئة المحكمة والهلباوي ..
لتنهض الروح الوطنية المصرية بعد طول نوم استمر من 1882 وتستيقظ على مأساة دنشواي ..
*بقلم محمد فرحات ” كاتب قصة وأديب” /عضو حزب التجمع التجمع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.