«السفر عند ميرفت رجب رحلة فى الروح، قبل أن يكون رحلة فى المكان، ونفاذ إلى صميم الوجدان الإنساني». هكذا كتب الشاعر والاذاعي الراحل فاروق شوشة فى مقدمته لكتاب « ميرفت رجب» «سفر فى سفر»، وهو الكتاب الذي يضئ لنا جانبا من مواهب هذه الإذاعية المبدعة التي اختارت لنفسها رسالة ومستوى قررت ألا تنزل عنه، وحين جاء زمن التسطيح والتجارة بالثقافة مرتبطا بالتغير الجذري فى السياسات منذ بدء عصر « السادات» وجدت نفسها غريبة ولم أندهش كما لم يندهش « فاروق شوشة»،وهو يحكي قصة تعيينها رئيسة للإذاعة « ولم تكد تمضي إلا شهور قليلة حتى أزيحت عن منصبها الذي استحقته عن جدارة وكفاءة. لم أفاجأ ولم أدهش، فالزمن لم يكن زمنها، ولم يعد ماسبيرو بيتها الذي ألفته وعاشت فيه على مدار العمر. حين دعوت « ميرفت رجب « قبل أربع سنوات للكتابة فى « الأهالي « وكنت أرأس تحريرها لم أكن قد تبينت من قبل حقيقة مواهبها ككاتبة وإن كنت قد تابعته واستمتعت ببرامجها الاذاعية المتنوعة والعميقة. ويندرج كتابها هذا ضمن الكتب القليلة التي تتضمن مقالات جرى نشرها من قبل فى الصحف ويقدر القارئ الجاد أن يحتفظ بها، بل ويعاود قراءتها. انشغلت « ميرفت» بقضية الرسالة فى المهنة التي منحتها عمرها وهي العمل الإعلامي، وهو عمل وثيق الصلة بالجمهور، بالغ التأثير فى تكوينه الثقافى والسياسي، خاصة فى بلد ترتفع فيه نسبة الأمية ليصبح الإعلام هو مصدر المعرفة والثقافة وتكوين القدرة على الاختيار السياسي، بل وحتى إختيار نمط الحياة. إضافة « ميرفت» فى هذا الكتاب الجميل إلى معرفتها الرفيعة والمتجددة دائما بفنون مهنتها، فن اختيار الشخصيات سواء التي حاورتها كإذاعية أو كتبت عنها بعد ذلك متوخية « الجدوى فى حدود الموضوع والوقت «. و»اصبح أثير صوت العرب يموج بمستويات رفيعة من الكلام فى الأدب والفن والتاريخ والفلسفة. وترقى عمل الإذاعي منا إذ إعداد البرنامج عملا بحثيا بكل معنى الكلمة « وهي حين قدمت برنامجا عن القضية العربية، اختارت أن يشاركها فى تقديمه « يوسف إدريس « أهم كاتب قصة فى العالم العربي، كما أنه ينتمي إلى هذه الجماعة الطليعية صاحبة الرسالة والتي ترى أن للأدب والفن دوراً فى كل من التنوير، وتكوين العقل النقدي، وفتح آفاق جديدة لتغيير العالم إلى الأفضل أمام ملايين البشر، وتتقاطع رسالته مع رسالة « ميرفت رجب « ونظرائها ممن تعاملوا مع الإعلام كرسالة. وكان إبعاد عشرات الإعلاميين بعد ما سمى « بثورة التصحيح « فى مايو 1971، ومن بينهم « سميرة الكيلاني « و» جلال معوض « و» أميمة عبد العزيز، وصلاح زكي، وصلاح عويس، وسيد الغضبان، وعبد الوهاب قتاية، وآخرين، كان هذا الإبعاد « مجرد إشارة بدء « لا فحسب للسخرية من فكرة الرسالة وإنما أيضا لتقديم مضمون مختلف كلية فى شكل تغيير خريطة البرامج، وإحلال برامج التسطيح محل برامج التنوير، وبالتوازي تتسع المساحات الممنوحة لبرامج تحمل عناوين توحي بالارتباط بالدين ولكنها تجذر للتدين الشكلي « وقد توالت علينا المصائب التالية لنصر أكتوبر، وتوالت تغييرات فى سياسات البث والنشر بينت مسارات فى تاريخ البلاد مقبضة، وتسارعت وتيرة مغادرة المهنة « وهو ماكان قد حدث للصحفيين الذين تعرضوا لضربات متلاحقة. وكان الإذاعيون مثلهم مثل كل المهنيين مرغمين فى ظل إنفلات الأسعار وبدء سياسة الانفتاح إما على أن يبحثوا عن عمل إضافى أو أن يفسدوا أو يغادروا. ولاحظت «ميرفت» المستوى المفزع لتدهور اللغة العربية فى سياق هذا الانهيار، فكتبت مذكرة لرئيس التليفزيون تطالبه بضرورة تأجيل ظهور بعض المذيعات الجدد ، إذ أن واحدة وقعت فى أربع وأربعين غلطة لغوية فى أقل من خمس دقائق، والثانية أخطأت اثنتين وعشرين مرة فى المدة ذاتها. ونعرف جميعا أن ما نسميه « مجزرة» للغة العربية قد أصبح شائعا جدا حتى الآن فى أداء الإعلاميات والإعلاميين. وأود أن أختم باقتباسها من المؤرخ الأمريكي « هوارد زين « الذي كتب التاريخ الشعبي للولايات المتحدةالأمريكية وأكد فى احتفال لتسليمه جائزة أنه يذكر بأن المعوزين من العمال والملونين والنساء بمجرد أن ينظموا أنفسهم ويبدأوا فى إظهار احتجاجهم على مستوى الوطن فإنهم يتحولون إلى قوة لا تستطيع أي حكومة أن تغفلها ببساطة، إنها إشارة عبقرية إلى أن الواقع البائس ليس أبديا.