«علي فكرة، ستو كانت بتضحك عليك، انت مش مولودة يوم سبت النور، أنت اتولدت يوم الجمعة الحزينة»، هذا ما فاجأتني به ابنتي الصغري قبل عام أو نحو ذلك.. وبين ضحكات الحاضرين من أفراد الأسرة، قلت لها، ولو المهم أنها نجحت في أن تغرس في الاستبشار وتربط مولدي بسبت النور، وسأظل احتفل -ولو في قلبي- بيوم سبت النور باعتباره عيد ميلادي.. واليوم هو سبت النور، اقضيه في شرفة الفندق الذي أسكنه في اديس ابابا، والشارع امامي يكاد يخلو من المارة، لكن صوت احتكاك عجلات السيارات المارقة بأرضية الشارع الذي غمرته مياه المطر يصرفني عن الكتابة بين حين وحين فأرفع رأسي عن الورق وأتأمل ركاب السيارات، والكل في ملابس زاهية تذكرني بأن اليوم عيد.. ومحمد عروق هو الحاضر في ذهني الآن، يفرض نفسه علي السطور التالية. كنا أواسط الستينيات ، وصوت العرب في عز مجده، وأنا منخرطة في المشاركة في تسجيل البرامج الاخبارية، ومع كبار المذيعين، وبالرغم من كوني مبتدئة وكانت اشارة تشجيع ولكن في نفس الوقت اقضي كل يوم فترتي تدريب، واحدة في قسم الاخبار، والأخري في استديو الاذاعة علي الهواء، وعليه فقد التقيت الاستاذ محمد عروق كثيرا، ذلك لأنه كان يحضر إلي صوت العرب مرتين في الأسبوع. يراجع تحرير نشرة الاخبار، ويأخذ جانبا هادئا نسبيا ليكتب تعليق صوت العرب علي الانباء ثم يتوجه إلي الاستديو لقراءته بعد انتهاء المذيع من قراءته لنشرة أخبار الثامنة مساء. فهمت بسرعة لماذا يلقي كل هذه المحبة والترحيب، بل سرعان ما أصبحت من أكثر السعداء حين يأتي في موعده. كانت الابتسامة لا تغادر وجهه حتي وهو يتكلم في اعقد الأمور، وحين تكون له ملاحظة فهو يسر بها إلي صاحب الشأن في كتمان.. ولم أكن الوحيدة التي يشملها برعايته، إذ كانت له جلسات قصيرة ثنائية تتكرر مع عديد من الزملاء، لكنه للأسف كان أحيانا لا يأتي في موعده لانشغاله بمهام أخري لا يجرؤ أحد علي الكلام فيها، فقد كان الكل يعلم أنه مدير مكتب شعراوي جمعة وزير الداخلية. كان الخبر صاعقا، ومع ذلك كتمت اسئلة كثيرة تقافزت في رأسي كيف، منذ متي، ولماذا هو، ولم انطق لمن حدثني في الأمر إلا بسؤال واحد.. «يعني هو ضابط شرطة» وكانت الاجابة، «لا. اطلاقا، هو متخرج من قسم الفلسفة. لم يكن شخصا تستطيع أن تأخذ منه موقفا سلبيا بأي حال، فهو يفرض عليك أن تحترمه وتحبه وتتعلم منه وتلزم حدودك.. حين علم بموعد اذاعة الحلقة الأولي من أول برنامج في صوت العرب، وبأنني كنت منزعجة من الفكرة لأنني تصورت أنهم يفرضون علي تقديم برنامج عن الأفراح يعني أسماء وأغاني لأن الاسم الذي وضعوه إلي جانب النصف ساعة المخصصة لي في سهرة كل خميس هو «زغاريد»، وبأنني لم أهدأ إلا بعد أن أكد لي الزميلان العزيزان عبد الوهاب قتاية ومحمد مرعي أن الأمر كله بيدي، وأن صوت العرب يتيح لأصحاب البرامج حرية حركة لا مثيل لها.. يعني افعلي ما تريدين.. سألت الأستاذ عروق، هل افعل ما أريد وأنا لم أكمل عامي الأول، ابتسم ولم يعلق..و لكنه اعطاني ورقة صغيرة عليها رقم تليقون وقال .. «اطلبيني بعد اذاعة الحلقة مباشرة». ولقد ابتلعني برنامج «زغاريد» وتأكدت من أن الأمر بيدي.. وأصبح البرنامج هو حقل تجاربي الاذاعية.. جربت فيه كل أشكال وفنون الاذاعة، كل أنواع الحوار، حوار الشخصية وحوار المناسبة وحوار الفكرة أو الحدث والندوة والتحقيق الاذاعي واستفتاء الميكروفون، بل والدراما.. ولقد كتب لي يوسف عوف وسمير خفاجي والاستاذ درويش الجميل ثم تجرأت وكتبت الدراما بنفسي، بل إنني جعلت التمثيلية الاذاعية القصيرة فقرة ثابتة في البرنامج وفضلت الحلقات المتصلة المنفصلة كنت اعتبر نفسي في اختبار اسبوعي تظهر نتيجته فيما اسمعه من الاستاذ عروق علي التليفون فور انتهاء اذاعة كل حلقة. واعترف ان ملاحظاته الفنية هي التي عمقت فهمي لمعني (الجدوي في حدود الموضوع والوقت) وهو ما شكل اساسا متينا لبرامجي التالية.. صحيح أنني تعلمت كل فنون الاذاعة في معهد التدريب الاذاعي قبل تكليفي بالبرنامج، وصحيح أن بين من علموني اقطابا مثل يوسف الحطاب وكامل يوسف ومحمد محمود شعبان وعبد الحميد الحديدي لكن متابعات الاستاذ عروق ثبتت في وجداني احترام المتلقي العارف صاحب الحق في المحاسبة، وحتي حين قضت الظروف بانقطاع متابعاته بقي في وجداني الشعور بأن بين المستمعين من هم في نفس قدره ولهم مثله حق المحاسبة. ولقد مثل تعيين الأستاذ محمد عروق مديرا لاذاعة صوت العرب بعد هزيمة 1967 نقلة نوعية لكل أفراد أسرة صوت العرب.. بل إن شكل الأسرة صار ساريا علي مجموعة البرامج الجديدة التي استحدثت في عهده، ومن أبرزها واحد + واحد وحديث الذكريات وسهرة الأحد ذلك أن طبيعة كل من هذه البرامج كانت تتطلب من الوقت والجهد في الإعداد ما يستحيل أن ينفرد به شخص واحد لكل برنامج وإنما كان الدور يأتي علي كل منا مرة كل شهرين كانت أسرة كل برنامج تنسق فيما بينها منعا للتكرار وأصبح أثير صوت العرب يموج بمستويات رفيعة من الكلام في الأدب والفن والتاريخ والفلسفة، وترقي عمل الإذاعي منا إذ أصبح إعداد البرنامج عملا بحثيا بكل معني الكلمة، فأنت إن اخذت حلقة من برنامج واحد + واحد كمثال فالمطلوب دراسة شاملة عن شخصية ضيف الحلقة، ودراسة مماثلة عن الشخصية التي يختارها الضيف ثم التكييف الفني للحوار بما يحقق التوازن في عرض الشخصيتين، هذا بالإضافة إلي اللجوء إلي كتابة مقاطع تمثيلية غالباما تستوحي من حياة ضيف الضيف، ففي الحلقة التي كان موضوعها الشاعر العراقي عبد الوهابي البياتي اختار أن يكون ضيفه الشاعر الفارسي عمر الخيام، ومن أجل ذلك كتبت ثلاثة مقاطع تمثيلية استوحيتها من دراستي لشخصية وتاريخ عمر الخيام، ولم يكن المقطع التمثيلي يزيد علي ثلاث أو أربع دقائق يتم نثرها بين ثنايا الحوار مع عبد الوهاب البياتي حول شخصه وشخص ضيفه عمر الخيام.. وكانت مدة الحلقة من برنامج واحد + واحد ستين دقيقة، و إذا كان المجال لا يتسع لاستعراض ضيوف جميع حلقات هذا البرنامج سواء ما قدمه غيري أو حتي ما قدمته أنا، إلا أن الإشارة لازمة لبعض الحلقات التي أعتز بأني قدمتها، فمثلا حلقة مع الاستاذ الدكتور كمال بشر نائب رئيس مجمع اللغة العربية وعميد كلية دار العلوم (لاحقا) وقد اختار أن نتحدث عن عالم اللغة «ابن جني» وفي كتبه ما أكد صواب الجيم القاهرية واعتماد علماء اللغة لها من زمن، وحلقة مع الاستاذ الدكتورة سعاد ماهر عميدة كلية الاثار وقد اختارت أن نتحدث عن الملاح العماني ابن ماجد الذي لولاه لما وصل ماجلان لرأس الرجاء الصالح، وكذلك حلقة الاستاذ سعد أردش المخرج المسرحي الكبير والذي اختار أن نتحدث عن رائد المسرح الغنائي المصري ألا وهو نفسه رائد المسرح الغنائي السوري، أبو خليل القباني هذا عن برامج الأسر، أما عن برامجنا كأفراد فقد اضيفت إلي خريطة البرامج أنواع أخري وفي عهده تمكنت من تنفيذ برنامجين جديدين لي هما: لقاء مع المستمعين وأوراق قديمة كنت قد اقترحتهما قبل توليه رياسة صوت العرب بشهور قليلة واقتضت الظروف التأجيل.. المهم أن إدارة محمد عروق بعثت فينا جميعا قوة حفز حولت أجواء الهزيمة واستبدلتها بطاقات علي الحشد والاستكشاف والإبداع قادرة.. وتحت قيادته تعلمنا كيف أن الاستغراق في العمل، بل تفضيل ما هو أصعب ليس إلا طوق نجاة لنا ولكل مستمعينا، تفجرت في كل منا طاقات ابتكار لم نكن ندري بوجودها، وجاءت البرامج التي قدمناها في عهده علامات فارقة في تاريخ صوت العرب وفي السجل المهني لكل منا. ومن أجل ذلك كله فإن يوم الخامس عشر من مايو 1971 هو عندي يوم النكبة الكبري وهو يوم الشروع في تغيير الهوية المصرية، ولقد اسمت الإدارة المصرية ذلك اليوم بأنه يوم ثورة التصحيح التي جاءت بأنور السادات إلي سدة الحكم.. لكن ذلك اليوم هو يوم إيداع الأستاذ محمد عروق في السجن بتهمة تغيير في برامج السهرة يوم 14 مايو وبهذه التهمة اودع بالسجن هو والسيد محمد فائق الذي كان وزير الإعلام في ذلك الوقت، والأستاذ محمد عروق لم يتقدم بأي التماس أو طلب عفو وإنما قضي المدة التي حكم عليه بها، سبع سنوات كاملة. وجاءت الأيام التالية للخامس عشر من مايو لتحول بين نجوم الاذاعة والتليفزيون المصري وبين عرش مجدهم الذي بنوه بفكرهم، ولقد تم تشتيتهم بين وزارات ومصالح تقصيهم عن مهنتهم بتهمة أنهم كانوا أعضاء في التنظيم الطليعي.. بينما كانوا في الواقع من صفوة الإذاعيين بكل معني الكلمة، وكان ذلك عندي ضربا للمهنة في مقتل. ولقد أثبتت الأيام والشهور والسنون التالية أن الإطاحة بهم كانت تخلصا مدروسا ممن أسسوا المهنة وصانوا أصولها علي مر السنين، والنتيجة الطبيعية هي أن تتزعزع ثقة الباقين ويتحول أكثرهم إلي إطاعة الأوامر في خنوع، فلا أحد يحب أن يلقي مصير من تمت الاطاحة بهم..و عن نفسي فلقد استوعبت الدرس جيدا، وقضيت الأيام والشهور والسنين التالية متشبثة بأصول المهنة، أجتهد، وابتكر إن أمكن ولكنني اتعامل مع كل يوم من أيام العمل علي أنه اليوم الأخير، والافضل ألا أجعل الكلمة الأخيرة لأحد غيري.. ولم يكن الحكم علي الأستاذ عروق بالسجن إلا مقدمة وكذلك كان ابعاد الاساتذة سميرة الكيلاني وجلال معوض وأميمة عبد العزيز وصلاح زكي وصلاح عويس وسيد الغضبان وعبد الوهاب قتاية ومحمد مرعي وعبد الله عمران ومحمد عبد الواحد وغيرهم كثيرون فكانوا مجرد إشارة بدء تلاها وبالتدريج تغيير خريطة البرامج وإحلال برامج التسطيح محل برامج التنوير وبالتوازي تتسع المساحات الممنوحة لبرامج تحمل عناوين توحي الارتباط بالدين ولكنها تجذر للتدين الشكلي وتستبعد أي كلام في المعاملات، ومضت شهور وسنون أغفلت كل هذه البرامج أي تذكير بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا أو أن الحسنات يذهبن السيئات.