تسييس الرعاية الصحية.. وأولوية السياسة واقع الخدمات الصحية في مصر حسم الجدال المحتدم بين معسكر حكومي يري اولوية اصلاح الاقتصاد، ويتشدق بأرقام نمو غير مسبوقة، وفريق يري أن السياسة هي المدخل الوحيد لإصلاح كل ما نراه من اخفاقات ومشاكل. فالسياسة كما يعرف الجميع هي التي تحدد اولويات وتوجهات اي حكومة.. والسياسة في مصر فرضت توجهات اقتصادية جعلت الدعم المخصص لقطاع الطاقة، لخدمة مصانع ومصالح رجال الأعمال، يفوق الميزانية المخصصة للتعليم والصحة مجتمعين.. وحتي الميزانية الضئيلة المخصصة للرعاية الصحية يتم تسييسها لخدمة الحكومة ورجالها ومصالحهم وهنا يأتي حديث الأرقام.. فعندما نشير الي تدني نسبة الإنفاق علي الخدمات الصحية في مصر فإن الأرقام تقول ان نسبة هذا الانفاق من الدخل القومي في مصر لا تتعدي ثلث ما تنفقه الولاياتالمتحدة وإسرائيل علي الخدمات الصحية فمقابل نسبة لا تتعدي 1.9% من الدخل القومي المصري، نجد الانفاق علي الصحة يصل الي 6.2% في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ويصل الي 6% في إسرائيل وذلك وفقا لاحصائيات عام 2002 ويمكن القول ان هذه الفجوة قد زادت منذ ذلك الوقت.. وتشير احدث الاحصائيات الي أن معدل الإنفاق الصحي علي الفرد في مصر لا يتعدي ال70 دولاراً مقابل 7500 دولار للفرد في الدول الأخري. وستزيد هذه الفجوة مع الولاياتالمتحدة علي سبيل المثال مع مد التغطية الصحية الشاملة للأمريكيين بعد نجاح ادارة باراك اوباما في إقرار تشريع الرعاية الصحية المهم والتاريخي يوم 23 مارس الماضي والذي ادخل 32 مليون أمريكي جديد في اطار مظلة التأمين الصحي. هذه الفجوة بين مصر والعالم لا تتوقف عند مجرد الأرقام لكنها تترجم الي ضحايا ووفيات من النساء والأطفال بسبب نقص الرعاية الصحية اذ يبلغ معدل وفيات الأطفال لكل 1000 طفل في مصر 35 ، مقابل 7 أطفال في أمريكا ، و6 أطفال في إسرائيل، فيما يصل معدل وفيات الأمهات لكل 100000 نسمة الي 84 أما في مصر، و8 أمهات في أمريكا، و5 في إسرائيل.. قلنا في البداية ان السياسة هي السبب وراء تدهور الخدمات الصحية ولكن كيف يفسر تسييس الخدمات الصحية هذا التدهور والتراجع الكبير في مصر المحروسة، رغم أن الأفراد يتحملون ومن جيوبهم الخاصة ثلثي إجمالي الإنفاق الصحي، فيما تتحمل الحكومة الثلث فقط وهي عكس المعادلة التي تحكم الانفاق في العالم حيث تتحمل الحكومة الحصة الكبري في الانفاق الصحي حتي في اعتي الدول الرأسمالية.. لعل احد العوامل التي يمكن ان تفسر هذا التسييس هو تحول الرعاية الصحية من خدمة تقدمها الحكومة في اطار معايير محددة تطبق علي كل افراد الشعب الي منحة يحصل عليها اعضاء مجلس الشعب ويقدمونها للناخب للحصول علي رضاه في مقابل تخلي هؤلاء النواب عن دورهم الحقيقي في الرقابة علي اداء الحكومة ، او سن تشريعات تحقق الدفاع عن مصالح المواطن الحقيقية. والوسيلة في ذلك كانت نظام العلاج علي نفقة الدولة، الذي تم في اطاره سحب مليار ومائتي مليون جنيه من الاعتمادات الموجهة للمستشفيات الحكومية التي كانت الملجأ الأخير لغالبية فقراء المحروسة.. مما كان يمثل فائدة حقيقية علي المريض في النهاية، وتخفيف معاناة المواطن البسيط.. ورغم مشاكل العلاج علي نفقة الدولة التي برزت علي السطح طوال السنوات الماضية والتي رصدتها تقارير الأجهزة الرقابية، كالجهاز المركزي للمحاسبات والرقابة الإدارية، والتي كشفت عن وجود مشاكل وخلل في نظام عمل المجالس الطبية فإن الحكومة استمرت في هذا النظام لأنه يحقق لها تسييس الخدمة الصحية وقصرها علي يد الواصلين الي الباب العالي ولا يهمها حرمان باقي المصريين. والأكثر من هذا تقوم الحكومة بإنفاق 200 مليون جنيه علي قوافل طبية ينظمها الحزب الحاكم تجميلا له ودعاية للحزب.. وعلي الرغم من الأصوات المطالبة بقانون جديد للتأمين الصحي يغطي جميع فئات الشعب كما هو حادث في كل دول العالم التي تحترم شعوبها وتحترم كلمتهم في صناديق الانتخاب إلا أن الحكومة الرشيدة تتحجج بوجود فجوة مالية قدرها 71 مليار جنيه، حتي تؤخر إقرار المشروع وتطبيقه. إذا مصر في حاجة الي مشروع يستهدف الفئات الأولي بالرعاية ويقدم تغطية شاملة للجميع بدءا من الأطفال حتي الشيوخ، يتضمن تشجيع الشركات والمؤسسات غير الهادفة للربح لتقوم بدور قوي في دعم التأمين الصحي.