1⁄4 تحدثنا في العدد الماضي عن صفات الخطاب الدعوي والإسلامي الرشيد.. وقد استفضنا في المرة الماضية في الحديث عن ثماني نقاط محددة مطلوبة في تجديد الخطاب الدعوي والإسلامي وهي: خطاب التيسير لا التعسير.. وخطاب التبشير لا التنفير.. وخطاب التعارف لا التقاتل.. وخطاب ينحاز للأصل ويتصل بالعصر.. وخطاب التجديد لا التبديد.. وخطاب الرحمة لا القسوة والعفو لا الانتقام وخطاب يجمع بين النص الشرعي والواقع العملي وخطاب يجمع بين النص والمقاصد. 1⁄4 واليوم نستكمل ما بدأناه سابقا بهذه النقاط التالية: 1⁄4 تاسعا ً: خطاب المرونة لا الجمود: 1⁄4 هناك خطاب دعوي إسلامي يريد تحويل كل نتاج العلماء ومفكري الإسلام وكتب التراث وشروح الأحاديث وتفسير الآيات والفتاوي المختلفة إلي ثوابت لا تقبل التجديد أو التغيير أو التطوير أو النظر أو المراجعة. 1⁄4 وهناك بعض العلمانيين في المقابل يريدون تغيير كل شيء يمت للإسلام بصلة.. ويريدون تغيير كل ما جاء عن العلماء والفقهاء وبعضهم يريد الاكتفاء بالقرآن وحده.. وبعضهم يعتبر كل شيء في الإسلام يمكن تبديله وتحويره وتغييره.. وكلاهما مخطئ ولم يعرف الإسلام حقا. 1⁄4 فالشريعة الإسلامية تحمل في طياتها وتعاليمها الثابت والمتغير معا.. وهذا من عظمة الإسلام أنه جمع بين أمرين ظاهرهما التناقض وحقيقتهما التكامل.. وهما سر خلود الإسلام وصلاحيته لكل الأزمان والأوطان. 1⁄4 وعلي الدعاة والعلماء والمسلمين أن يكونوا مع ثوابت الإسلام في صلابة الحديد ويثبتوا مع ثوابته.. وأن يكونوا مع متغيراته في مرونة الحرير وأن يتغيروا مع متغيراته.. وألا يجمدوا مع متغيراته.. فالثبات يكون في مقاصد الإسلام العليا وغاياته الكلية.. والمرونة تكون في الفتاوي التي تبني علي المصلحة أو العرف وتتغير من زمان إلي آخر.. أو الشروح البشرية للقرآن أو السنة أو الآراء البشرية للفقهاء.. والتي تختلف من زمان إلي زمان.. أو من مكان إلي مكان. 1⁄4 فالثبات يكون في الأصول والأركان.. والمرونة في الفرعيات والجزئيات.. والثبات يكون في العقائد والأخلاق.. والمرونة في أعمال الاجتهاد والقياس.. وفيما لا نص فيه.. وفي كل ما يتعلق بالدنيا كلها. 1⁄4 فالشوري من ثوابت الإسلام في الحكم.. ولكن كيفية تطبيقها في كل عصر وبلد هي من المتغيرات. 1⁄4 والعدل في الحكم من ثوابت الإسلام ولكن كيف يتحقق العدل السياسي والاجتماعي فذلك متروك لكل عصر ومصر. 1⁄4 وتحريم الربا والغش والتدليس والاحتكار والغرر¢وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا¢ وإقرار الملكية الفردية من الثوابت الاقتصادية في الإسلام وما دون ذلك كله من المتغيرات. 1⁄4 وأزمة بلادنا هي تحويل بعض الدعاة للمتغيرات إلي ثوابت.. وتحويل بعض العلمانيين والملحدين ثوابت الإسلام إلي متغيرات. 1⁄4 فتحريم الزني من الثوابت بل إن الله حرم كل ما يقرب من الزني من النظرة والخلوة والقبلة ¢ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَي إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً¢.. ولكن البعض يريد أن يحوله إلي متغير ويريد أن يحل الزني قبل الزواج بحجة اختبار الرجل للمرأة وهل تتوافق معه جنسيا أم لا ؟.. أي أنه قد يجرب ألف فتاة جنسيا ثم بعد ذلك يقرر من تصلح منهن للزواج إن كان سيتزوج حقا.. وكل هؤلاء ليسوا من أرباب الزواج. 1⁄4 فالزواج طهارة وعفة.. والزني خبث ورذيلة وقبح وفاحشة.. ولكن البعض أصبح لا يستحيي حتي من الزني. 1⁄4 إن هؤلاء المخابيل والسفهاء يريدون هدم الإسلام نفسه بتحويل ثوابته العقائدية أو الأخلاقية إلي متغيرات تتغير بتغير الزمان أو الأوطان.. وهذه كارثة كبري من أولئك الذين يريدون التشدد بتحويل متغيرات الإسلام إلي ثوابت.. فلنكن جميعا في ثوابت الإسلام وأركانه وعقائده وأخلاقه وقيمه العليا ومقاصده الكليه في صلابة الحديد.. وفي متغيراته في مرونة الحرير. 1⁄4 عاشراً: خطاب الثنائيات لا الأحادية:- 1⁄4 البعض يقرأ الإسلام قراءة أحادية.. ويهتم بمعني دون آخر.. ويركز علي معني دون الآخر المكمل له.. فالبعض يهتم بصلاح الظاهر دون الباطن.. فلن يكون هناك صلاح إلا بصلاح الظاهر والباطن وصلاح القلب والجوارح.. والبعض يهتم بالعبادة دون العمل وكلاهما مكمل للآخر.. وفريق ثالث يهتم بالعدل دون الإحسان.. أو بالقصاص دون العفو.. أو بالثابت دون المتغير أو بالمتغير دون الثابت.. أو يهتم بالقوة عن الجمال.. أو بالقوة دون الرحمة.. أو بالمنفعة المادية للشيء دون الجمال الذي خلقه الله فيه.. أو الصدع بالحق دون فعل الخير. 1⁄4 فبالعدل تتحقق المساواة ولكن الإحسان يمحو الأحقاد من النفوس وينشر التآخي بينهم. 1⁄4 وبالقصاص يسود العدل ويأخذ كل ذي حق حقه.. ولكن العفو يقرب النفوس بعضها إلي بعض ويزيل سخائمها وضغائنها. 1⁄4 أما ثنائية المنفعة والجمال فلا تكتمل الحياة إلا بهما.. ألا تنظر إلي قوله تعالي ¢ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةي ¢ فلم تهتم الآية بأشجار الفاكهة التي تسعد البشر ولكنها اهتمت بهذه التوليفة الرائعة من أشكال الأشجار والثمار والزهور وألوانها التي تبهج الأنفس وتزيل الأحزان. 1⁄4 ألم تتأمل قوله تعالي ¢وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة - ¢ فالركوب هو المنفعة.. ولكن هناك شيئا أروع وأعظم غير المنفعة وهو الجمال الذي تراه في هذه الدواب.. وخاصة إذا كانت صغيرة.. فالحصان والحمار الصغير لهما جمال رائع.. إنها ¢الزينة¢ التي تحدثت عنها الآية. 1⁄4 وقد اهتم الخطاب الدعوي الإسلامي منذ فترة بالمنفعة دون الجمال.. والحق دون الرحمة والشفقة.. فتري بعض الدعاة يبلغ دعوته بغلظة وفظاظة مع أن من أبجديات الدعوة ¢أن الحق مر فلا تزده مرارة بجفوتك وغلظتك¢.. أو اغترارك بنفسك أواستعلائك علي الآخرين. 1⁄4 وقديما كان الزهاد من السلف الصالح يقولون ¢ لأن تبيت نائما وتصبح نادما خير من أن تبيت قائما وتصبح معجبا مغرورا.. أو مانا أو مدلاً علي الله بطاعته وقيامه¢.. فالمنَّ علي الله أعظم الذنوب عند الله ¢ قل لا تمنوا علي َّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان¢ 1⁄4 والإدلال علي الله والفخر بالطاعة من أعظم الذنوب.. أما الفخر بالمعصية والسعادة بها لهي من أكبر الكبائر والموبقات.. فالمعصية قد يغفرها الله للعبد أما الاستهانة أو الفخر بها أو تحديث الأقران بها أو التباهي بها لهو أعظم عند الله من المعصية. 1⁄4 حادي عشر: خطاب التواضع وخفض الجناح: 1⁄4 فالأصل في الإسلام وكل الأديان التواضع.. ولذلك كان هتاف النبي صلي الله عليه وسلم ¢ إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ¢.. وهتافه لمن خاف منه: ¢هون عليك يا أخي فإنما أنا ابن امراة كانت تأكل القديد في مكة ¢.. ولكن بعض الدعاة وخاصة من الحركات الإسلامية يظن أنه أكثر إسلاما وتدينا ً من عوام الناس.. ناسيا أن حجة الإسلام الغزالي كانت أمنيته في آخر عمره وبعدما أنجز ما أنجز من عشرات المؤلفات وعلم آلاف العلماء وملأ الأرض علما وفقها وزهدا.. كانت أمنيته ¢ يا ليتني أموت علي ما ماتت عليه عجائز نيسابور ¢. 1⁄4 فأعظم الإيمان إيمان العوام الذي لا يعرف الأدلجة ولا التكلف ولا التشدد ولا السعي إلي مناصب الدنيا.. ولا الدوران حول مغانم السلطة وكراسيها.. أو الصراع السياسي أو الطائفي أو الحزبي أو التفنن في الكراهية. 1⁄4 إنه إيمان الفطرة وأي دعوة أو خطاب ديني لا يعرف رائحة التواضع فلا خير ولا بركة فيه.. ولذلك علي الدعاة أن يحسنوا للناس جميعا ويتواضعوا لهم جميعا ويخفضوا الجناح لهم.. ولا يحتقروا عاصيا مهما بلغت معاصيه.. ¢ فَبِمَا رَحْمَةي مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ¢ 1⁄4 ثاني عشر: خطاب المقاصد: وهو الذي يقرأ النص قراءة جيدة وفي الوقت نفسه يدرك مقاصده.. ويجمع بين النص وروحه.. فلا يخرج النص عن روحه.. ولا يلغي النص في مقابل الاهتمام بالمقاصد.. إنه خطاب المقاصد.. ومقاصد الشريعة التي ذكرها الشاطبي خمسة ومنها مثلا ً¢حفظ النفس¢ مطلقا مسلمة وغير مسلمة.. ولو طبق المسلمون هذا المقصد وحده لعصمت كل الدماء التي تراق في المشرق العربي كله.. فالشاطبي منذ أكثر من ألف عام نص علي أن ¢حفظ كل الأنفس مسلمة أو غير مسلمة¢ هي من مقاصد الشريعة.. ويحضرني في هذا أن كثيرا من العلماء المحدثين قالوا إن مقاصد الشريعة أكثر وأعظم من هذه الخمسة.. وبعضهم أضاف إليها العدل والحرية والمساواة ومن مشاكل الخطاب الحالي أنه يهتم بالنص أكثر من مقاصده العليا والكلية.. وبالشكل أكثر من المضمون.. والظاهر أكثر من الباطن.. وخطاب العقل أكثر من خطاب العاطفة. 1⁄4 ثالث عشر: خطاب يجمع بين النص الشرعي والواقع العملي.. فلا يهمل النص الشرعي تحت ضغط الواقع الأليم البائس.. ولا يهمل الواقع الذي نحياه بحجة أن أعمال النصوص هي الأهم.. فالنص جاء لإصلاح الواقع.. وكل الأنبياء تفاعلوا إيجابيا مع مشاكل أقوامهم وعصرهم وتصدوا لها.. فلوط هتف زاجراً قومه ¢ أَتَأْتُونَ اَلذُّكْرانَ مِنَ اَلْعالَمِينَ وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمى عادُون¢ 1⁄4 وشعيب غضب لفساد قومه الاقتصادي ¢ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ¢.. وهود رأي قومه طواغيت وجبابرة فوبخهم ¢ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ¢