يضيع الإسلام والأوطان بين الإفراط والتفريط.. وبين الغلو والتقصير.. وبين التشدد والانحلال.. وبين التكفير والإرجاء.. وبين غلاة الدواعش وغلاة العلمانيين.. وبين دعاة التشيع وسب أبي بكر وعمر وبين دعاة التحلل من الإسلام والدين. كلاهما يضر الإسلام والأوطان ويسيء إليهما ويضرهما.. وقد بين القرآن الأنواع الثلاثة الإفراط والتفريط والوسطية في آية واحدة في إعجاز عظيم وذلك في قوله تعالي " أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ".. وهو يعبر عن الطغيان والزيادة والإفراط " وَأَقِيمُوا الْوَزْن بِالْقِسْطِ " وتعني الوسطية والاعتدال والعدل والحكمة.. أما قوله تعالي " وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَان " فهو يعبر عن التفريط والانحلال والتبخيس. فمنذ بزوغ فجر الإسلام علي الكون يتصارع الإفراط والتفريط مع الوسطية والاعتدال.. فيعلو الإفراط والتفريط زمناً.. ويظن الجميع اختفاء واندثار الوسطية والاعتدال والحكمة والرشد.. ولكن سرعان ما يزول الغبش والغث ويبقي ما ينفع الناس في الأرض والأفئدة والقلوب " فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" فمنذ بداية الرسالة وحتي اليوم هناك صراعات مفتعلة كثيرة.. فالبعض يغالي في سيدنا علي.. فيري أنه النبي الذي سرقت منه الرسالة أو الخليفة الذي سرق منه أبو بكر وعمر الخلافة. والبعض الآخر يقصر في حقه ولا يعرف مكانته السامية كواحد من خلفاء الرسول الراشدين ومن العشرة المبشرين بالجنة وله من الفضل والعلم والسبق ما تضيق عنه كتب ومجلدا.. وليس مجرد مقال مثل هذا. والبعض يؤلف صراعاً وهمياً بين الدنيا والآخرة.. ناسياً أن الدنيا هي مزرعة الآخرة. وآخرون يؤلفون صراعا ًمزعوماً بين الأصالة والمعاصرة أو القديم والجديد.. مع أن كليهما ليس معصوماً وكليهما يؤخذ منه ويرد.. ولا خلاف بينهما.. فكلاهما يخدم الإسلام والأوطان مادامت المعاصرة لا تعارض أو تصطدم مع ثوابت الإسلام.. وتسعي لتطوير وتحسين متغيراته.. فلا تهدم عقيدته ولا أخلاقه ولا فرائضه وتطور فيما سوي ذلك من آليات وميكانيكات. والبعض ألف صراعاً موهوماً بين العلم والدين.. مع أن العلم خادم للدين.. والدين يحث علي العلم ويحض ويدعو إليه. ألم تكن أول آية نزلت علي نبي هذه الأمة هي " اقرأ".. فهل أمة " اقرأ" تصطدم مع العلم أم تكون من أهله وفرسانه؟!. وبعضهم اصطنع معركة وهمية بين النص والعقل.. فبعض العلمانيين المتغربين يقدس العقل ويقدمه علي النص الصحيح.. ويدعي أن العقل حكم علي النص وحكم علي كل شيء وهو المرجعية العليا للبشر. أما بعض المتشددين من الإسلاميين وبعض التكفيريين فيشتطون في الناحية العكسية ولا يرون للعقل دوراً علي الإطلاق أو يريدون تغييبه حتي لو كان في فهم النص أو شرحه أو الوقوف علي حكمته وبيان ما خفي من أسراره ومقاصده.. وهم يقولون ذلك بحجة الاستسلام والانقياد لله.. وأنه إذا قال النص قولاً فلا حديث لأحد وهذا ظاهره الخير وباطنه الشر. والإسلام الحق وسط بين الاثنين.. فهو لم يأت بتقديس العقول من دون الله.. ولا بإلغاء العقول ليعيش العباد في ضلالات الجهالة والغي. ولكنه أعطي العقل دوراً محدداً وعظيماً وكبيراً في الوقت نفسه.. فهو مهما علا قدره ومكانته إلا أنه يحتاج دوماً إلي نور الوحي وهدايته ولا يستقل بالتشريع ابتداء.. ولكنه يشرع أو يبدع في كل مساحات تعمير الكون باتساعها ورحابتها.. وفي كل المساحات التي لا نص فيها وهي أوسع المساحات وأكبرها.. وفي مساحات المباحات وهي مساحة الدنيا كلها.. فكل آيات الأحكام في القرآن 80 آية فقط وما هو خارج وبعيدا ًعنها يمكن للعقل أن يسرح فيها ويمرح متفكراً ومبدعاً وفاعلاً كيف يشاء في خدمة البشرية. وللعقل أن يجتهد في فهم النص.. مثل النصوص ظنية الدلالة والتي تحتمل وجوهاً عدة للتأويل. والخلاصة أنه ينبغي علي العلمانيين ألا يقدسوا عقولهم وعلي الإسلاميين المتشددين ألا يلغوا عقولهم أو يربوا الناس علي إلغائها.. وأن يدرك هؤلاء وهؤلاء أن النص الصحيح لا يمكن أن يصطدم مع العقل السليم أو العلم الصحيح.. لأن مصدرهما واحد من الله سبحانه. وهناك معركة مصطنعة أخري هي بين الإكراه علي الدين وبين التحلل منه.. فالقرآن يصدح في البشرية هاتفا ً" لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ " و" أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" فلا إكراه في الدين ولا تحلل منه.. فالدين اختيار.. لأن مناطه القلب والقلب لا يملكه سوي ربه. وقد جاءت عشرات الآيات والأحاديث التي تنهي عن إكراه الناس علي الدين والهداية.. فالله غني عن العالمين.. ولكن ذلك لا يعني تعطيل الدعوة إلي الله أو نشر الانحلال والرذيلة أو الهجوم علي ثوابت الإسلام والطعن في أئمته. إن الله غني عن العالمين ولكنه لا يرضي لعباده الكفر والمعصية والفسوق.. والله لا يضره كفر أهل الأرض جميعا ً.. ولا تنفعه طاعة الطائعين.. ولكن الله يحب الصالحين من عباده.. ويجب صلاح عباده لأنه يحب خيرهم وبرهم ويكره عذابهم " مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ " فيا أهل الإفراط والتفريط أرجوكم ابتعدوا عن مصرنا الحبيبة.. حتي لا تضيعوا وتضيعوها.