لعلَّ كثيرًا من المثقفين يعلم أنَّ الدِّين الذي يتعامل معه الأوربيون وفي منظورهم الفكري. إنما هو ظاهرة اجتماعية. تُشكِّلُ في معظم مكوناتها حصيلة الفكر الإنساني خلال قرون مضت. وإن كانت له في نظر المؤمنين منهم جذور ذاتية لا علاقة لها بصنع الإنسان. فالمسيحية التي يتعامل معها الغربيون لا تعبِّر من وجهة نظرهم عن وحي إلهي نزل علي سيدنا عيسي عليه السلام. وإنما هي عندهم مجرد مذكرات لمن تسمَّوا: "الرُّسُل". جمعوا فيها بعض أخبار المسيح وسيرتِه وأقوالِه. ولهذا لا ينظر كثير من الغربيين إلي تعاليم المسيحية علي أنها أوامر إلهية تنزَّلَت علي بني إسرائيل خاصة. أو علي الناس عامة» بحيث لا يسعهم إلا تطبيقها والالتزام بها. بل يعتبرونها مجموعة من الأفكار والآراء المتطورة التي لقيت استجابة مجتمعية. ثم حظيت بالقبول والتقديس من المجامع الكنَسِيَّة. يقول "جون ستيوارت ميل" في كتابه: "عن الحرية ص59": "إنَّ الأخلاقيات التي تُسمَّي: المسيحية وإن كان الأجدر أن تُسمَّي: الأخلاقيات الكهنوتية ليس مما أُخذ عن السَّيد المسيح. أو الحواريين. بل هي من أصلي متأخِّر جدًّا. فقد تمَّ بناؤها بشكل تدريجي علي يد الكنيسة الكاثوليكية في القرون الخمسة الأولي". ومن هنا جاز للغربيين عمومًا. وللفلاسفة والباحثين منهم خصوصًا: أن ينظروا إلي الدِّين الموجود في حياتهم علي أنه منتج بشري من نسجي الإنسان وصُنعه. وكان من المنطقي أيضًا بناء علي ذلك أن يبسطوا علي هذا الدِّين سلطانًا من أنفسهم. يسمح لهم بتطويره واستخدامه فيما يرونه من مصالحهم ومنافعهم. بتوسيع صلاحياته أو تضييقها. بل وربما إلغائها إن اقتضي الأمر! يقول "جون جيرمي بنتام" في كتابه: "أصول الشرائع ص307": "يجب أن يكون سَير الدِّيانة موافقاً لمقتضي المنفعة. فالدِّيانة باعتبارها مؤثراً: تتركب من عقاب وجزاء. فعقابها يجب أن يكون موجَّهًا ضد الأعمال المضرَّة بالهيئة الاجتماعية فقط. وجزاؤها يكون موقوفًا علي الأعمال التي تنفعها فقط. وهذه هي القاعدة الأولية. والطريقة الوحيدة في الحكم علي سَير الدِّيانة: هي النظر إليها من جهة الخير السياسي في الأمة فقط. وما عدا ذلك لا يُلتَفت إليه". لقد سوَّغ هذه الطريقةَ للغربيين في التعامل مع الدِّين: قناعتُهم العلميةُ التامةُ بأنَّ الصَّنعة البشرية هي التي صاغت دينَهم وشكَّلَته شيئًا فشيئا. فإذا فكَّر بعض المسلمين لا سيَّما التقليديين منهم في أن يتعاملوا مع الإسلام كما يتعامل الغرب مع دينهم. فيبسطوا عليه سلطانًا ذاتيًّا يسمح لهم بتطويره كما يحبون. وتوسيع صلاحياته أو تضييقها كما يشتهون» فلا عجب في ذلك. شريطة أن تتوفر تحت أيديهم القناعاتُ العلمية المماثلة عن الإسلام. ومن هنا جاز لنا أن نسأل هؤلاء: هل توفرت لديهم هذه القناعات العلمية الأكيدة؟ وهل عكف واحد منهم علي دراسة جوهر الإسلام وحقيقته بموضوعية تامة. فأوصلته دراسته تلك إلي أن الإسلام هو الآخر ليس إلا حصيلة أفكار وآراء بشرية تجمعت إلي بعضها عبر القرون؟ هل دلت الدراسات العلمية الموضوعية علي أن القرآن الذي بين أيدينا هو حصيلة أفكار وصياغاتي بشرية. وأن محمدًا - قد ابتدع الرسالة التي بلغها للناس من عند نفسه؟ لقد كنت أتمني من هؤلاء أن يبحثوا هذه المشكلة من هنا. من هذا الأصل. ما داموا يتشدَّقون بالدعوة إلي العِلم. ويتجمَّلون بشعارات الفكر. ويعلنون إعراضهم عن كلِّ شيء في سبيل العِلم! أما الجرأة علي الحقائق التي قرَّرَتها الدراسات العلمية الموضوعية من أنَّ الإسلام في أصوله الاعتقادية ومصادره الأصلية وبنيانه التشريعي: واقع ذاتي ذو وجود موضوعي خارجي ومستقلّي عن ذهن الإنسان وكيانه. فهذا ما لا يفعله عاقل. فضلا عن غيره. وحتي يعود هؤلاء راشدين إلي ميزان علمي يُمكِنُهم من خلاله بحثُ القضايا بموضوعية. فلا بُدَّ أن نبيِّن لهم من أين حصَلَ لنا اليقين العلمي التام بوجود واقع ذاتي للإسلام. وأنه ليس منتجًا بشريًّا كما يدَّعون!. معلوم عند كلِّ أحدي أنَّ الإنسان لم يصنع نفسَه. وأنه ليس فاعلًا لشيء من الطاقات والصِّفات الموجودة في كيانه. وإنما هو منفَعل بها. كما أنه لا يستطيع أن يجذب هذه الطاقات والصفات إلي كيانه أو يدفعها عنه أو يبقيها فيه» فهو مجرد جهاز استقبال بكلِّ ما تحمله الكلمة من معني. واليقين العلمي بوجود جهاز استقبال: يقود قطعًا إلي اليقين العلمي بوجود جهاز إرسال. وإلا فمن أين ينعكس إرسال هذه الطاقات إلي الإنسان فيتحرك وينتج ويدرك ويفهم. حتي إذا جاء أجل مسمي انقطعت عنه هذه الطاقات. فإذا هو كالشاشة البيضاء التي انقطعت عنها أشعة الإرسال؟ إن الجهود المعرفية والوسائل العلمية التي يتعامل بها جميع الناس علي اختلاف اتجاهاتهم تقودنا إلي إجابة واحدة لهذا السؤال: هي أن الإنسان صنعة خالق أوجده ابتداء. ثم يمده بمقومات الوجود. ويفيض عليه بما شاء من الملكات والطاقات التي يتمتع بها إلي أجل معلوم. فالله الخالق هو الفاعل لها. والإنسان المخلوق منفعل بها. وهذه الحقيقة العلمية الثابتة هي التي تجعل من الإنسان عبدًا ومملوكًا. ومن الخالق الفاعل سبحانه إلها ومالكًا. والدِّين إنما ينبثق من العلاقة بين الخالق والمخلوق. ولكي يمارس الإنسان تدينه لمن خلقه ابتداء وأمده بسر الحياة. ويضع هذه العبودية موضع التنفيذ. خاطبه الله تعالي علي لسان رسله وأنبيائه بجملة من التعليمات إخبارًا وتكليفًا. وما الدِّين في حقيقته ومضمونه إلا جملة هذه التعليمات. وكان آخر هؤلاء الرُّسل الكرام : سيِّدنا محمَّدًا -. ولقد درَسنا سيرتَه ووقائعَ حياتِه بموضوعية تامَّة. وبمنهج علميّي رصين. فلم نجد من سبيل علمي يسمح بافتراض أنه اخترعَ هذه الرسالة التي بلَّغ بها الناس من عند نفسه. أو أنه كان أعظم كاذبي علي الله في الوقت الذي لقَّبَه الناس فيه بالصادق الأمين. وتأمَّلنا في القرآن الذي جاء به إلينا بذات المنهج العلمي. فلم نجد من سبيل إلي افتراض أنه اختلَقَه وافتراه. بل لم نجد سبيلًا إلي افتراض أنه من عند بشَري من الناس أيًّا كان!