ذاقت اليتم منذ نعومة أظافرها. انسلت فكرة الموت في روعها وهي طفلة. شاهدت جثمان أبيها. رأت جثمان أمها. ورغم بشاعة هذه المظاهر. ومرارة اليتم علي طفلة صغيرة إلا أن كل ذلك خلق بداخلها قوة هائلة للإقبال علي الحياة. وأنار قلبها بحب العطاء. فوطنت نفسها علي حب الناس والمجتمع. فامتزج العطاء والحب فكونا داخل نفسها مشاعر فياضة لزمتها طول حياتها. ضمها أخيها الأكبر إلي صدره الواسع هي وأخواتها الصغار وتعهدت بهم زوجته صاحبة الحسب والنسب. استغلت عنصر الزمن وعلمت نفسها جميع فنون الحياة.. القراءة والكتابة وحفظ القرآن. إجادة التدبير المنزلي. الثقافة العامة التي استلهمتها من البيئة المحيطة بها. وسرعان ما سرقها الزواج قبل أن تهنأ بشبابها. أدي تتابع حالات الولادة السبع إلي القضاء تماماً علي أي متع من متع الحياة. وأدخلت نفسها إلي دروب الحياة الشاقة. ومن ذلك التاريخ وهي توظف نفسها وحياتها للاهتمام ببيتها وأولادها.. تقوم علي كل شيء في حياتهم وبل وعناية العديد من أسرة زوجها. فكانت نبع السعادة لكل من حولها من أسرتها الكبيرة والصغيرة. الكل يرتشف منها رشفات تقيم روحه وصلبه في الحياة. تزوجت من أحد علماء الأزهر يعمل قاضياً شرعياً.. كان شديد الصرامة قوي الالتزام الديني والأخلاقي. فرض علي أسرته قيوداً استمده بعضها من الإسلام والأخري من البيئة المحلية الملتزمة. وكان أشد قراراته ألا تخرج زوجته من المنزل بعد أن دخلتها "عروس". حتي الإطلالة من الشبابيك كانت ممنوعة. والظهور أمام أي رجل حتي لو كان إخوته كان درباً من المحال. رغم هذه الصرامة في النهج إلا أنها كانت راضية كل الرضا مبتهجة بذلك طالما كان ذلك يوصلها إلي رضي الله سبحانه وتعالي فأول مرة تطأ قدميها الشارع أو عتبة باب البيت يوم زفاف ابنتها الكبري. الغريب في الأمر والذي يدعو للعجب أنها حافظت علي هذا النهج ولم تنفك عنه طوال حياتها حتي بعد وفاة زوجها. عاشت حياة سعيدة. هادئة. تخللها بعضها لفترات من الهم والألم فاحتفظت لنفسها الألم. وطوت بجناحيها علي الهم كي لا يتسرب لأسرتها. ونثرت عليهم لحظات السعادة. تعمل دائماً علي ألا تشعر أسرتها بأي فاقة أو أي أزمة من الأزمات فكانت تنشي حينما تشعر أن أسرتها في قمة سعادتها. تشبع بشبعهم وترتوي بإرتوائهم. تبتهج ويجري الدم في عروقها حينما تنطلق البسمة علي وجه صغارها. وتجدهم سعداء مرحين في غدوهم ورواحهم. تعهدت بستانها وتفانت في رعايته حتي أثمر لها من أسعد مهجتها فظهرت الثمار.. الطبيب والعالم. والضابط المهندس. والصحفي وأنضم لأسرتها ثلاثة من الرجال المرموقين في مجتمعهم تزوجوا من بناتها الثلاث منهم رجل الأعمال الكبير والطبيب والضابط. وراح الزمن يبسط عليه رداء السعادة فتوافد أمام أعينها أحفادها الذين عملوا في جميع فنون الحياة الطبيب القاضي. المهندس. المستشار أعضاء في المجالس النيابية. عانت في حياتها الكثير. ونالت قسطاً من السعادة لكن المرض كان يترصد بها. فأنهك قلبها. وسيطر علي جسدها فطرحها قعيدة الفراش. وعجز المرض أن ينتزع منها شيئين.. العبادة وقراءة القرآن. والعطاء والحب. اشد المرض. وراح يضنيها بالألم واستطاع أن يسيطر علي لسانها فألجمه. ومنها الحركة حتي والطعام فارتفع بصرها للسماء. وتحركت شفتيها بذكر الله. وأشاحت بوجهها عن الآخرين. وأشاع نوراً من جبهتها. وعاد وجهها لنضارة الطفولة. وأطلقت بسمة كبسمة العروس يوم زفافها.. كانت الأبصار شاخصة نحوها. مضطربة. واجمة.. الوجوه مشدهوه يرمقونها وهي عنهم غافلة. الأبصار لا تترك وجهها الذي ظهر كالقمر يوم بدره. وسرعان أطلقت بسمة عريضة وأسبلت عينيها. فقد فارقت الحياة.