حريةَ الرأي مكفولة لكلِّ إنساني في الحياة. بغضِّ النظرِ عن عقيدتهِ أو وطنهِ. فلكلّ إنسان الحق في إبداء رأيه فيمَا يراه. والتعبير عما يجولُ في خاطره عن مجتمعه بل والعالم من حوله» لذا فإِنَّ المجتمعاتِ التي حُرم أَصحابها هذا الحقّ مجتمعات مكبوتة تعيش عصورَ الظلامِ والقهرِ والاستبدادِ. وحريةُ الرأي تعني - كما ذكر الأستاذ خليل محمد خليل في كتيبه الموسوم ب ¢ حرية الرأي في الإِسلام ¢ -: أنْ يكونَ الإنسان حرًّا في تكوين رأيه. فلا يكون مُكرهًا عليه أو تابعًا لغيره. وإنما يكون نابعًا من تفكيره وعقله بإرادته الحرّة. وأنْ يتمكنَ من التعبير عنه وإعلانه بالطريقة التي يراها. كأنْ يكون بالقول الحسن أو بالرسائل أو بوسائل النشر المختلفة والمتعددة في عصرنا الحديث. إن حرية الرأي تعني أن يبدع كل إنسان في مجاله. وأن يطلق العنان لطاقاته وإبداعاته ليأتي بأفضل ما عنده. وليتيقن بأن الله مطلع عليه ويراقبه. وحرية الرأي تعني الكلمة المسئولة التي تحترم مشاعر الآخرين ولو كانوا مختلفين معه في الدين والوطن. ملتزمًا صاحبها بالضوابط الشرعية. ولقد وجَّه نبينا - صلي الله عليه وسلم - أنظار المسلمين إلي حرية الرأي والاستقلال التام عند إبداء الرأي. وترك التبعية البغيضة التي تدفع بعض الناس إلي تقليد المسيئين واتِّباعهم. في الحديث الذي رواه الترمذيّ في باب ¢ البِرِّ والصِّلة ¢ عن حُذيفة - رضي الله عنه - أن النبي - صلي الله عليه وسلم - قال: ¢ لا يكنْ أحدُكم إمَّعة - أي يقول لكل واحد أنا معك - يقولُ: إن أحسنَ الناسُ أحسنْت. وإنْ أساءُوا أسَأت. ولكن وطِّنوا أنفسكم. إن أحسنَ الناس أنْ تحسِنُوا. وإن أسَاءوا أنْ تجتنبُوا إسَاءتهم ¢. فعلي المسلم أنْ ينأي بنفسه عن اتباع الآخرين. وأَن يكونَ مستقلًا في رأْيه متمتعًا بهذه الحرية التي منحهَا له الإِسلام ¢ وَهدينَاه النّجدين ¢ "سورة البلد /10". وفي العصر الحديث نص الإِعلان العالمي لحقوق الإنسان الصَّادر عن الأممالمتحدة علي هذا الحق. ففي المادة 19 ورد أن: ¢ لكل إنسان الحقّ في حرية الرأي والتعبير عنه. ويتضمن هذا الحق حرية اعتناق الآراء بمأْمن التدخل وحرية التماس المعلومات والأَفكار وتلقينها واذاعتها بمختلفِ الوسائل دون تقييد بحدود الدولة ¢. وهذا الحق الذي كفله الإِسلام للإِنسان منذ أَكثر من أَربعة عشر قرنًا جعل له ضوابط ليكون الرأي بنَّاءً لا هدَّامًا هدف صاحبه مصلحة المجتمع. ولا َضَير أَن يَرومَ مصلحتهِ دون الإِضرار بمصالح الآخرين أَو مشاعرهم. وأكبر خطأ يقع فيه أصحاب الآراء عند التعبير عن آراءهم هو محاولة فرض آراءهم بالقوةِ. يقول ابن القيم "ت 751 ه": ¢ والحرية في الإسلام مكفولة لاعتناق الآراء والتعبير عنها حتي لو كانت مخالفة لرأي الجماعة ما دامت لا يفرضها أصحابها بالقوة ¢. "إعلام الموقعين 2/306". ومن ضوابط حرية الرأي في الإسلام ألا يثير الإنسان الفتن والعداوات والشحناء برأيه بين الناس ويجعلهم أَحزابًا وفرقًا. يتقاتلون فيما بينهم فإن أصبح الأمر كذلك وجب منعه. يقول الإمام الغزالي "ت 505 ه": ¢إنَّ المحذور هو التشعب والتعصب والعداوة والبغضاء وما يفضي إليه الكلام. فذلك محرم ويجب الاحتراز منه ¢ "إحياء علوم الدين 1/165". ومن أهم ضوابط حرية الرأي في الإِسلام عدم التعرض للممتكات العامة أو الخاصة. أو التعرض لأيِّ حقّي من حقوق الآخرين. فأنتَ حرى مالم تَضرّ. وتقفُ حريتكَ عند حريات الآخرين. وكثير من الناس يعتبرون التعرض للمال العام نوعى من إبداء حرية الرأي. وقد كفل الإسلام الكليات الخمس "الدين والعِرض والنفس والمال والعقل". فيجب الحفاظ علي الكليات أو الضرورات الخمس حال إبداء الرأي. ولا يتسامح في الشئ اليسير. وقد كان السلفُ الصالح يعلّمون أبناءهم الحفاظ علي مال الآخرين. فقد روي أنَّ رجلاً معه ابنه الصغير مَرَّ علي حائطي من ¢ بوص ¢ فأخذ الطفل لحاءً "أي قشرة" فقال مستنكراً. أي بني: ما هذا ؟. قال: شئ يسير لا يضر !. فقال أبوه معلمًا إياه: أرأيت لو أنَّ كل إنسان فعل مثل ما فعلت. وأخذ من الحائط مثل ما أخذت هل يبقي من الحائط شئ. قال: لا ! ومن الضوابط كل ما أقره الإسلام في التعامل من عدم السخرية. والهمز واللمز والغمز. والسب. والقذف. والتعرض للعِرض. والجدال والمراء. وألا يؤذي الآخرين حسيًّا أو معنويا.... إلخ. وأما مجالات حرية الرأي فكثيرة ومتشعبة. تشمل جميع نواحي الحياة. والإنسان يعايشها وينفعل بها ويعبر برأيه فيها بالضوابط المشروعة ما دام الهدف من إعلان هذه الآراء مصلحة الفرد والمجتمع مع مراعاة مشاعر الآخرين وحقوقهم. حتي ولو كان هذا الرأي في اختيار الحاكم أو الرئيس ومراقبة أعماله وعزله إذا خالف الشرع في عمله أو حكمه. فذلك حق الأمَّة عليه. بيد أن الإسلام احتاط للأمر مراعاة لأمن الوطن وتوقيًا للفتنة فلم يجز الخروج علي الإمام إلا لاعتبارات جسيمة. أو عند الضرورة القصوي. وذلك تمسكًا بالقاعدة الشرعية في تحمُّل الضرر الأدني لتفادي الضرر الأكبر. ولا غَرو أن ينزلَ ولاة الأمر علي هذه الآراء المضبوطة بالضَّوابط الشَّرعية. فهذا أميرُ المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - لمَّا تظاهر عليه جموع المسلمين لمحاسبته علي أَعماله أَذعن لرغبتهم ولم يُنكر عليهم هذا الحقّ. ومنْ أقواله - رضي الله عنه - وهو الخليفة المفتري عليه: ¢ إنِّي أتوبُ وأنزعُ ولا أعودُ لشئي ممَّا عابهُ عليَّ المسلمُون. وقد سَمِعتُ رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يقولُ: ¢منْ زلَّ فليتبْ. ومنْ أخطأَ فليتبْ ولا يتمادي في الهلكةِ. فإنَّ من تمادَي في الجورِ كانَ أبعد عن الطريقِ. فأنَا أوَّل من اتَّعظ. أستغفرُ الله مما قلتُ وأتوبُ إليه. فإذا نزلتُ من منبري فليأتني أشرافكم فليرونِي رأيَهُم. فواللهِ إنْ ردَّنِي إلي الحقِّ عبداً لأذلنّ ذلّ العبيد¢. "الطبقات الكبري لابن سعد 3/76" وهكذا يجب أن يكون الحاكم المسلم ! أما أُمور الدين ومسائله وأحكامه التي فيها النص من القرآن والسُّنة فلا رأي لأحدي فيها ولا مجال للرأي فيها. وإن عُدَّ الاجتهاد ضربى من حريةِ الرأي بشروطهِ المعروفة. نعم... إنَّ حريةَ الرأي المكفولةِ في الإسلامِ للجميعِ تحمِّل المسلمين مسئوليات جسام تجاه أوطانهم وأمتهم. ولو التزمنَا بهذه الضوابطِ الشرعية حال إبداء الرأي فلن نخشي شيئًا» لأنها حينئذي ستنفعُ ولا تَضُرّ وستبني ولا تهدِم وسَتجمَع ولا تفرِّق وستعمِّر ولا تخرِّب.