أواصل معكم حديثي عن الامام الشافعي حيث انتشر ذكر الشافعي في مصر. وأتاه الناس من كل مكان. بل و مِن كل بلد آخري غير مصر. وازدحمت حلقة الشافعي في مصر ازدحاماً لا عهد لأهل مصر به من قبل. كان المكان يضيق بطلبة علم الشافعي. و كان يجلس بين يديه الشيوخ الكبار فضلاً عن طلبة العلم. لأنّ الله تعالي قد آتاه حجةً قويةً وعذوبة لساني وفصاحة بياني ومنطقاً وبلاغة. ومِن أجمل ما قرأتُ في هذا... أن تلميذ الشافعي. ¢الإمام المُزَنِيّ¢- ذهب إليه يوماً. يقول المزني: خَطَرت بخاطري مسألةى تتعلق بذات الله. فقلت: "لا يُخريج ما في ضميري إلا الشافعي". فذهبت إليه في مجلسه و سألته عنها. فغضب الشافعي. و نظر إليّ و قال: أبَلَغَك أنّ الله- تبارك و تعالي- قد أمر بالسؤال عن هذا؟ قال: لا. قال: أبَلََغَك أن الرسول- صلي الله عليه و سلم- قد أمرك بالسؤال عن هذا ؟ قال: لا. قال: أبلغك أنّ الصحابة- رضوان الله عليهم- قد تكلموا في هذا؟ قال: لا. قال: فكم نجماً في السماء؟ قال: لا أعلم. قال: فكوكب منها أتعلم جِنسه وأصوله وطلوعه ومِمَّا خُلِق؟ قال: لا. فقال الشافعي: فشيءى تراه بعينك مِن خلْق الله- عز و جل- لا تعلمه. تتكلّف أن تعلم خالقه جل جلاله! ثم قال الشافعي: يا هذا إذا هَجَسَ في خاطرك شيء من هذا. فارجع إلي الله تبارك و تعالي. وارجع إلي قوله جل وعلا: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءي فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةي وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتي لِّقَوْمي يَعْقِلُونَ" "البقرة: 164" ثم قال له الشافعي :¢ فاستَدِلَّ بالمخلوق علي الخالق. و لا تتكلف علمَ ما لم يَبْلغه عقلك¢ .انظر إلي تلك الشجرة ذات الغصون النَضِرة. كيف نمت من حبةي و كيف صارت شجرة؟! . ابحث و قُل من ذا الذي يخرج منها الثمرة؟! "ذاك هو الله" الذي نعمه منهمرة. ذو حكمةي بالغةي و قدرةي مقتدرة. أإلهى مع الله؟!... فاستدل بالمخلوق علي الخالق. ولا تتكلف عِلْم ما لم يبلغه عقلك. "وَآَيَةى لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ "33" وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتي مِنْ نَخِيلي وَأَعْنَابي وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ "43" لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ "53" سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ "63" وَآَيَةى لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ "73" وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَريّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ "83" وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّي عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ "93" لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلىّ فِي فَلَكي يَسْبَحُونَ". "يس:33-40" وفي السنة الرابعة بعد المائتين أحبتي في الله... في الرابعة و الخمسين من عمره. نام الشافعي علي فراش الموت. بعدما اشتدَّ عليه المرض. و دخل عليه تلميذه ¢المُزَنِي¢ هذا ليقول له: كيف أصبحت؟ فقال الشافعي:¢ أصبحت من الدنيا راحلاً و للإخوان مفارقاً و لِكأس المَنِيَّة شارباً . وعلي الله وارداً. والله لا أدري أتصير روحي إلي الجنّة فأهنِّيها أم إلي النّار فأُعزِّيها¢. وبكي الشافعي- رضي الله عنه- ونظر إلي السماء وناجي ربَّه جل وعلا وقال: ولمَّا قسي قلبي وضاقت مذاهبي جعلتُ الرجا مني لعفوك سُلَّما تعاظمَني ذنبي فلما قَرنْتُه بعظيم عفوك ربي كان عفوك أعظما مازِلتَ ذا عفوي تجودُ وتعفو منَّةً وتكَرُّما ولقي الشافعي ربه- جل و علا- بعد هذه المناجاة الرقيقة التائبة الآيبة إلي الله عز و جل. فرحم الله الشافعي رحمةً واسعةً. و جزاه الله عنّا وعن المسلمين والإسلام خير ما جازي صالحاً أو مُصلِحاً. ها هي قفزات سريعة في سيرة هذا الإمام العلَم لأنه لا يتسع الوقت أبداً لسرد حياة هذا الإمام. وللوقوف مع عبادته ومع تقواه ومع ورعه ومع زهده. ومع فنونه في علوم القرآن ومع أصوله التي وضعها لعِلم الفقه. ومع أصوله التي وضعها لعلم الحديث. لا يتسع أبداً المجال لهذا. ولكن أقول: "الشافعيُّ بشرى يُخطئ ويُصيب". فكلى يؤخذ منه ويُردُّ عليه إلا النبي -صلي الله عليه وسلم- ولقد أبي الله جل وعلا أن يُلبِس ثوب العصمة إلا لحبيبه المصطفي- صلي الله عليه و سلم-. فإلي كل متعصِّبي لمذهب الإمام... وإلي كل متعصب للإمام نفسه... أقول له: اِعْلَم بأنك قد خالفت إمامَك وخرجتَ علي قواعد مذهب إمامك يوم أن تعصبت له وتعصبت للمذهب. مع مخالفةي للدليل من القرآن والسنة الصحيحة. فإن من أروع ما سطَّره الإمام الشافعي. قولته الخالدة أو أقواله الخالدة التي يقول فيها: ¢ما مِن أحدي إلا وتذهب عنه سُنَّةى لرسول الله- صلي الله عليه وسلم- أي لا يعلمها. فمهما قُلتُ من قولي أو أصَّلتُ من أصلي ووَضَح فيه خلافى عن رسول الله- صلي الله عليه وسلم- لقولي» فقول رسول الله-صلي الله عليه و سلم- هو قولي. وإني راجعى عن قولي في حياتي وبعد مماتي¢. وقال الشافعي- رضي الله عنه-: ¢إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي¢. وقال الشافعي- رضي الله عنه-: ¢إذا صحَّ الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط¢ وقال الشافعي:¢ لقد ألَّفتُ هذه الكتب و لم أقصِّر فيها¢- أي- اجتهدت فيها علي قدر استطاعتي و لم أقصر فيها- إلا أنّه وَجَبَ أن يكون فيها من الخطأ. لأنّ الله تبارك و تعالي يقول: "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً" "النساء: 82" فما وجدتم في كتبي من قولي يُخالف قول الله وقول رسول الله- صلي الله عليه و سلم- فاعلموا أنّي راجعى عن قولي في حياتي وبعد مماتي¢. ذلكم هو الشافعي. الإمام الذي يتبرَّأ من كل تعصبي بغيضي أعمي لقوله. مع أنّه "قد يكون خالف هذا القولُ الدليل الصحيح من القرآن والسنة الصحيحة". فيا أيها الأحبة... يا أبناء الصحوة خاصة. ويا أيها المسلمون عامة... عودوا والعَوْد حميد. إلي العود الكريم الحميد. إلي النبعَين الصافيَين الكريمَين. إلي القرآن والسُنَّة الصحيحة. "فإنّ الحق لا يُعرف بالرِّجال ولكنَّ الرجال هم الذين يُعرفون بالحق". وكل أحد من الأئمة والعلماء والشيوخ يؤخذ من قوله ويُردُّ عليه. لا تنقادوا لأحدي انقياد الأعمي ولا تسلِّموا لكل أحدي تسليماً كاملاً. فكل بشري علي ظهر الأرض يصيب ويخطئ. وقد أبي الله إلا أن يُلبس ثوب العصمة إلا لحبيبه المصطفي- صلي الله عليه و سلم- فكلى يؤخذ منه ويردّ عليه. إلا النبي- صلي الله عليه وسلم- فعودوا إلي النبعين الصافيين الكريمين الذَيْن قال النبي- صلي الله عليه وسلم- فيهما. كما ورد في الحديث الذي رواه الإمام مالك في الموطأ. ورواه الإمام الحاكم في المُستَدرَك من حديث بن عباس وأبي هريرة. وصحّح الحديث شيخنا الألباني في صحيحه وصحيح الجامع. وحسَّن الحديث شيخنا الألباني. أن النبي- صلي الله عليه وسلم- قال: ¢تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً. كتاب الله وسنتي¢. وفي لفظ أبي هريرة في مستدرك الحاكم: ¢وإنهما لن يفترقا حتي يَرِدا علي الحوض يوم القيامة¢ فيا أيها الأحبة عودةً إلي القرآن والسنّة الصحيحة. والأقوال التي توافق السنّة الصحيحة لأهل العلم و الفضل. أمّا أن نتعصَّب لأحدي بعينه ولإمامي بشخصه. وأن نأخذ كلامه علي أنّه تشريعى لا يقبل المناقشة ولا يقبل المداولة. ولا يقبل العرض علي كتاب الله ولا علي سنّة رسول الله» فهذا انقيادى بغيضى أعمي. وتعصُّبى مقيتى ذميمى ردَّه كل إمامي من الأئمة المعتَبَرين. وقد سمعتم قولة الشافعي. وقبْلها قولة مالك. و قبْلها قولة أبا حنيفة... "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي".