لقد حث الإسلام علي الاجتماع والاعتصام والوحدة. فالاجتماع والاتفاق سبيل إلي القوة والنصر. والتفرق والاختلاف طريق إلي الضعف والهزيمة . وما ارتفعت أمة من الأمم وعلت رايتها إلا بالوحدة والتلاحم بين أفرادها. وتوحيد جهودها. والتاريخ أعظم شاهد علي ذلك. ولذا جاءت النصوص الكثيرة في كتاب الله عز وجل. وسنة رسوله -صلي الله عليه وسلم- تدعو إلي هذا المبدأ العظيم. وتحذر من الاختلاف والتنازع ومنها قوله تعالي: "وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين" "الأنفال:46". وفي حديث أبي مسعود: ¢كان رسول الله - صلي الله عليه وسلم- يمسح مناكبنا في الصلاة . ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم¢ "رواه مسلم". والحج موسم عظيم. تتجسد فيه وحدة المسلمين في أبهي مظاهرها وأجمل حللها. حيث تذوب الفوارق. وتتلاشي الحواجز. ويجتمع المسلمون في مشهد جليل . يبعث علي السرور. ويسعد النفوس ويبهج الأرواح. فيجتمع المسلمون من أقطار الأرض حول هذا البيت العتيق. الذي يتجهون إليه كل يوم خمس مرات. البيت الذي يقصدونه بقلوبهم وأفئدتهم من خلال صلواتهم في بلادهم الشاسعة البعيدة. ها هم الآن يجتمعون حوله ويري بعضهم بعضاً. يتصافحون ويتشاورون ويتحابّون. خلعوا تلك الملابس المختلفة والمتباينة من علي أجسادهم. ووحدوا لباسهم. ليجتمع بياض الثياب مع بياض القلوب. وصفاء الظاهر مع صفاء الباطن. إنها لحظات رائعة وهم يتحركون جميعاً من مني. ثم يقفون ذلك الموقف العظيم في عرفة وقد اتحدوا في المكان والزمان واللباس والوجهة. إنّ مظاهر الوحدة في موسم الحج متعددة وكثيرة. منها:- - وحدة الزمان والمكان: فالحج له زمان ومكان محدد يؤدي فيه لا يجوز أن يكون في غيره . قال تعالي: "الْحَجُّ أَشْهُرى مَعْلُومَاتى فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ" "البقرة: 197". وقال - صلي الله عليه وسلم - ¢الحج عرفة¢ " الترمذي" - وحدة المناسك: فالجميع مطالب بأداء مناسك الحج. من الإحرام. والطواف بالبيت. والسعي بين الصفا والمروة. والوقوف بعرفة. والمبيت بمني. ورمي الجمار... وكلهم يقومون بنفس الأعمال مما يجسد ويعمق هذه الأخوة والمحبة. - وحدة الهدف والغاية والشعور: فالجميع قد جاؤوا من كل فج عميق. يحدوهم الأمل . ويحفهم الخوف والرجاء. رافعين أكف الضراعة إلي الله - عز وجل- راغبين في مغفرته طامعين في فضله ورضوانه. - وحدة المنهج ومصدر التلقي: فإذا كان من مظاهر وحدة المسلمين في الحج وحدة الزمان والمكان والغاية والهدف فإن من مظاهر الوحدة : وحدة المنهج ومصدر التلقي. حيث إن الحجيج إنما يتحركون في أداء مناسكهم تبعا لمنهج رسمه لهم قائدهم وقدوتهم يوم أن حج بالمسلمين حجة الوداع وحوله من المسلمين مائة وعشرون ألفا وقد وقف عليه الصلاة والسلام. ليوضح لهم معالم دينهم ويعلمهم مناسك حجهم وأمام هذا الحشد الضخم من الأمة. كان الخط الأول خذوا عني مناسككم وبذلك تتجه الأمة لتري رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو علي راحلته يؤدي المناسك فيقتدي الناس جميعا به ويرونه وهو علي الراحلة بحيث يتم بهذه العملية إلغاء كل المناسك الوثنية التي كانت موجودة في أرض الحرم . إذا فالمسلمون منهجهم واحد يتوحدون عليه ويعملون به. وذلك لأنهم بدون هذا المنهج لا حج لهم مبرور ولا ذنب لهم مغفور . كما أنهم يلتقون حول قيادة واحدة يأخذون عنها مناسكهم ويتلقون منها تعليماتهم وقيادةپ المسلمين. التي لم يختلف عليها اثنان هو سيد الخلق وحبيب الرب سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم . إننا معشر المسلمين نملك كل مقومات الوحدة ونملك كل مقومات السيادة وكل مقومات الرقي فما الذي فرق جمعنا وشتت شملنا وجعلنا في مؤخرة القافلة؟!! إننا ينبغي أن نأخذ من الحج دروسا لا تنسي. نجعلها محل تطبيق في حياتنا ومجتمعاتنا ودولنا وعالمنا الإسلامي كله» فالقِبلة واحدة. والربُّ واحد. والمشاعر واحدة. واللباس واحد. وكل هذه الأمور تجتمع في هذا الموسم المبارك. وهي مدعاة للإحساس بوحدة الشعور. وموجبة لتعزيز التآخي. والتعارف بين المسلمين. ومشاطرة الآلام والآمال. والتعاون علي مصالح الدين والدنيا. حدِّق بعينيك. تأمل حواليك. أمواج متلاطمة من البشر. ألوف مؤلفة. بل ملايين مملينة. اختلفت ألوانهم. وتناءت ديارهم. واختلفت ألسنتهم. وتعددت لغاتهم. عرب وعجم. هنود وزنج. سود وبيض. حمر وصفر. رجال ونساء. صغار وكبار. لكن جمعهم شيء واحد هو وحدة الغاية والمقصد. وهي رضا الله. اللغة واحدة: لغة التوحيد. واللهجة واحدة: لهجة الصدق. وحدة حقيقية من عاشها تمني أن يدوم الحج ولا ينتهي. ثم انظر إلي هذا المشهد الرائع في بطحاء عرفة. وخذ لمحة ذات اليمين وأخري صوب الشمال. أرجع البصر كرتين هل تري إلا ثياباً بيضاً قد علت الأبدان؟! ووجوهاً متوضئة من شتي الأصقاع تناجي الرحمن.؟!! التقت في صحراء عرفة. بثياب رثة لا تصلح لخيلاء. ولا تنفع لكبر. نشيدهم العذب: لبيك اللهم لبيك.!! وحلو كلامهم: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" "البقرة: 201".