لم تزل عناية الأمة المحمدية بالقرآن الكريم مضرب الأمثال. جيلا بعد جيل. علي توالي القرون من أقدم عهد في الإسلام إلي يوم الناس هذا. يحفظه الصغير والكبير. والمثقف والأمي. والعربي والعجمي. تحقيقا لوعد الله تعالي إذا يقول: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" "الحجر:9" وقد كان الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله وسلم في غاية الاهتمام بتعليم القرآن الكريم لأصحابه رضي الله عنهم يحضهم علي ذلك في كل وقت . قائلا فيما رواه البخاري "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" فأقبل أعيان الصحابة رضي الله عنهم علي القرآن الكريم حفظاً وفهماً. وتعلما وتعليما. حتي كان أقلهم عناية بالقرآن الكريم لو أراد أن يستشهد بأي موضع منه لاستطاع بلا أدني مشقة. وقد انتشر أولئك الصحابة الأطهار في أقطار البلاد التي دخلها الإسلام. يبلغون كلام الله تعالي لعباده . وليس يخفي علي من طالع التاريخ ما صنعه معاذ بن جبل وعبد الله بن عباس بمكة. وأبي بن كعب وزيد بن ثابت بالمدينة. وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود بالكوفة. وأبو الدرداء بالشام. وأبو موسي الأشعري بالبصرة. من نهضة قرآنية عظيمة. فخلقوا في تلك المدن تلامذة أبراراً . قاموا علي قدم أشياخهم في تعليم القرآن والعناية به . حتي قبل إن الكوفة وحدها كان بها من تلاميذ بن مسعود أربعة آلاف قاريء وكان لابن عامر - تلميذ أبي الدرداء وأحد القرآء السبعة- أربعمائة عريف يعلمون القرآن بالمسجد الأموي تحت إشرافه ولم تكن مصر في معزل من تلك العناية بالقرآن الكريم حفاظاً ورواية . بل كان لأهلها في ذلك اليد الطولي و حتي إن عبد العزيز بن مروان لما قدم مصر والياً عليها من قبل أخيه عبد الملك بعث إليه يقول: "لقد وليتني علي قوم لهم كبة علي المصاحف. فأرسل إلي أقرأ من عندك أجمع الناس عليه" فأرسل إليه عبد الرحمن بن هرمز الأعرج "ت 118 ه" فرابط بثغر الاسكندرية. واتخذ بها داراً يعلم فيها القرآن. حتي توفي ودفن بها . وهي المعروفة إلي الآن ب "مسجد سيدي عبد الرحمن". وقد توارث المصريون منذ عهد ابن هرمز العناية الشديدة بتلقين القرآن الكريم . والعمل علي نشر علومه بين الصغار والكبار . فاسسوا الكتاتيب لتحفيظه . والمقاريء لإقامة ألفاظه ونشر علوم أدائه. وأكثروا منها في نواحيهم وخططهم . ورصدوا لهما من الأوقاف الكثيرة ما لايسع المقام بيانه. وأدي ذلك إلي ازدياد عدد الكتاتيب والمقاريء فقامت نهضة قرآنية كبيرة في مصر . حتي كان في القاهرة. وحدها منذ إنشائها إلي أواخر القرن الثالث عشر الهجري من تلك المعاهد القرآنية أكثر من ألفي معهد "كتاب أو مقرأة" مفرقة في المدارس والمساجد والزوايا والمشاهد والتكايا والملاجيء والمستشفيات. وكان يدرس فيها من طرق القراءات الصحيحة زهاء عشرة آلاف طريق. ومن الكتب الجامعة قرابة المائة كتاب . ما بين منثور ومنظوم وكان يتولي أمر الإشراف علي تلك المعاهد شيخ القراء والمقاريء خلفا لابن هرمز الأعرج الذي يعد الدارسون لتاريخ المقاريء مسجده - القائم إلي الآن بالإسكندرية - أول مقر لمشيخة المقاريء المصرية . والتي انتقلت بعد وفاته إلي مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط علي يد الإمام ورش المصري . ولم تزل هناك حتي انتقلت في عهد العلامة محمد علي خلف الحسيني إلي بيته في حي الدرب الأحمر . بالقاهرة. وجري الأمر من بعده علي أن تكون المشيخة في بيت شيخ القراء ثم أخذت تلك المعاهد في الاندثار. حتي صارت أثرا بعد عين . فاستشعرت الحكومة المصرية فاتح القرن المنصرم ضرورة إحيائها من جديد. وشرع ديوان الأوقاف قبل عام "1328ه 1⁄2 1909م" في مراجعة الأوقاف الخاصة بالمقاريء والكتاتيب . والعمل علي تنفيذ شروط الواقفين فكان جملة ما أمكنه تنفيذه ستة وخمسين كتابا. وإحدي عشرة مقرأة. سلم الكتاتيب منها إلي ديوان المعارف العمومية "وزارة التربية والتعليم آنذاك" لتديرها بمعرفتها فأدرجتها في مدارسها. وأصبحت لا تخرج سوي نزر يسير من حفاظ القرآن. وأما المقاريء فبقيت تحت إشراف ديوان الأوقاف وقد غلب عليها الناحية التعبدية دون التعليمية التي كان عليها السابقون ولما تولي العلامة محمد علي خلف الحسيني مشيخة المقاريء حاول تطوير المقاريء وإحياءها فلم تسعفه المالية بما يحتاج فقام بالاجتماع مع علي بك حسن أحمد سنة 1931م. وألفوا "جمعية المحافظة علي القرآن الكريم" بهدف دعم المقاريء المصرية . وساعدوها بأموالهم وأعمالهم . وثابروا علي ذلك بجد ونشاط وافتتحوا عشر مدارس قرآنية. كان يقوم بالتعليم فيها مائة مدرس من الحفاظ المتقنين العارفين بعلوم الأداء من قراءة وتجويد ورسم وعدد أي ووقوف وإعراب وبلاغة وغير ذلك. فلما تولي العلامة الضباع أمر المقاريء المصرية رفع إلي مصطفي باشا عبد الرازق - وزير الأوقاف آنذاك - مذكرة شديدة اللهجة. شرح فيها حالة المقاريء المصرية. وما ينبغي أن يتخذ لإحياء دورها من جديد. وأنه لا يمكن للحكومة أن تترك المقاريء علي تلك الحال فإجابة رحمة الله تعالي إلي ما طلب . حتي افتتح في عام واحد ما يقرب خمسمائة مقرأة . بجانب ما اتخذه من قرارات برفع مكافآت المشايخ والطلاب . ولكن ويا للأسف لقد أخذ الاندثار يتوالي علي المقاريء المصرية من جديد دون أن تجد من يشد أزرها ويرفع كلمتها ويفعل دورها في الأمة كما كانت من قبل لقد كانت المقاريء قديما علي فوضاها أجدي وأنفع للإسلام والمسلمين منها اليوم . تلك التي خرجت أمثال المتولي والضباع والمخلللاتي والجريسي والقاضي والسمنودي وغيرهم. ولعل وزير الأوقاف الجديد يتدارك حال المقاريء المصرية قبل ألا لا يمكن تداركها فيأمر بتشكيل لجنة علي قدم من النشاط والجدية. تقوم بحصر أوقاف المقاريء ودراسة ما يمكن فعله لرفع المستوي العلمي والمادي لشيوخها حتي يمكن القضاء علي بدعة اليوم الواحد في عقد المقرأة لتعقد كل يوم كما كانت في السابق ثم يوزع الأئمة والوعاظ عليها حسب مكان سكنهم مع الإلزام بالحضور والاستفادة ثم يعهد بالتفتيش علي المقاريء لجهاز جاد في المتابعة. يضمن الانضباط في التنفيذ والدقة في التقييم فيؤدي بذلك للأمة الإسلامية خدمة جليلة إن في بقية السلف من أعلام الأزهر أملا أن يردوا هذه الهيئة الكريمة التي ما كانت عليه من تميز في خدمة القرآن وعلومه. فتعود لمصر ريادتها في هذا المجال..