* كان الصحابة والتابعون والعلماء الثقات يتهيبون الفتوي ويتوقفون في بعض الأحيان عنها قائلين قولتهم المأثورة "لا أدري".. خوفا من مسئوليتها الجسيمة وفرارا من تبعاتها واستعظاما لخطرها حتي قال الفقيه العظيم ابن أبي ليلي: "أدركت 120 من الأنصار فيسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلي هذا وهذا إلي هذا حتي ترجع إلي الأول.. وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شيء إلا وأحب أن يكفيه غيره". * ولكن الهوي السياسي أو الحزبي أو التنظيمي أو نفاق الحكام أو طلب السلطة أوجد ما يمكن أن نسميه الانحراف السياسي بالفتوي الشرعية.. فوقعت الفتوي الشرعية بين مطرقة بعض المفتين غير المستجمعين لشروط الفتيا والفاقدين لأهليتها ممن يتبعون بعض التنظيمات الإسلامية لمنح الشرعية لأفكارها أو حركتها أو مواقفها السياسية.. بل وتطور الأمر بهؤلاء المفتين بمنح صك القبول الشرعي لتصرفات سياسية طائشة أثبت الزمان عدم صلاحيتها وواقعيتها. * كما وقعت بين سندان توظيف بعض الحكام للفتوي لدعم حكمهم وفرض سيطرتهم وتبييض بعض صفحاتهم السوداء. * والناس اليوم لا يحسنون التفريق بين مقام الوعظ والدعوة الئي تغلب عليه الحماسة والحث والعاطفة.. وبين مقام الفتوي الذي لا مجال فيه للعواطف ولا الحماسة ولا الكلمات المطاطة أو التعبيرات الأدبية التي قد تحمل المعني ونقيضه. * فمقام الفتوي مقام انضباط ودقة.. فكل شيء له حكم ورتبة في الإسلام.. فهذا واجب أو حرام أو مندوب أو مكروه. * فالمفتي أشبه بالمحاسب الدقيق الذي يزن بميزان الذهب.. ولذلك تري الآلاف قد يصلحون للوعظ والخطابة.. ولكن القليل من يصلح للفتوي التي تحتاج لعلم غزير مع دقة القراءة للنص الشرعي وكذلك للواقع العملي وتنزيل هذا علي هذا.. وهو ما يسميه الأصوليون تحقيق المناظر. * واليوم يفسد الهوي السياسي والاستقطاب الحاد مجال الفتوي الشرعية كما أفسد من قبل مجالات الدعوة والتربية والحكم.. وأصبحت أكثر الفتاوي تتحدث اليوم بلسان التحزب أو التعصب السياسي.. أو الرغبة في نصرة فريق سياسي علي آخر.. فانصرف الناس عن جميع المفتين الذين سقطت فتاواهم في وحل الاستقطاب السياسي. * لقد وقعت الفتوي الشرعية أسيرة ل "تحريف الغالين" وانحال المبطلين وتأويل الجاهلين وهذا كله أدي وسيؤدي إلي ضمور الفقه السياسي الاسلامي الحقيقي وانزوائه تحت وطأة ضربات الحكام وأعوانهم أو وطأة بعض الجماعات و الأحزاب الاسلامية السياسية..إذ حرص كل فريق منهم علي توظيف الفتوي الشرعية لمصلحته ودورانها في فلكه بدلا من أن تكون خدمة للإسلام وللأوطان. * وأنا أعتبر أن أحلك فترات الفتوي الشرعية سوادا هي هذه الفترة التي نعيشها والتي شهدت حالة من الفوضي والتسيب في الفتوي لم تشهدها مصر من قبل حتي في أحلك فتراتها. * فما بين مفتين يقولون للناس إن الذي يترك اعتصام رابعة يعد فارا من الزحف ثم يكونون أول الفارين.. ومن يربط الإيمان بالله والإيمان بعودة د.مرسي حاكما.. ومن يكفر الجيش والشرطة المصرية ويفتي بقتلهم تقربا إلي الله.. وأن هذا هو الطريق الوحيد لتحرير القدس.. وبين من يفتي بتطبيق حد الحرابة علي مخالفيه..وبين من يحرم المظاهرات أو يوجبها.. وبين من يكفر الإخوان أو يفتي بقتلهم خدمة لمصر وإعلاء لشأنها.. وبين من يفتي بتطليق زوجته إذا اكتشف انتماءها للإخوان المسلمين. * وكل هؤلاء جعلهم الهوي السياسي حبا أو كرها يسخرون الفتوي لخدمة السياسة فتحل للساسة ما حرمه الله عليهم.. أو تحرم عليهم ما أحله الله لهم. إن هؤلاء لم يتبعوا في فتاواهم البرهان والدليل الشرعي ولكنهم اتبعوا هواهم السياسي سواء كان مع الحاكم أو ضده.. أوكان مع التنظيمات والأحزاب الإسلامية أو ضدها.. هؤلاء لا يثبتون مع ثوابت الاسلام.. ولا يدورون مع الشريعة حيث دارت.. ولكنهم يدورون مع هواهم السياسي حيث دار ليضيعوا آخر ما تبقي لنا من حصون الدين والإسلام.