حفظ القرآن القانون الأخلاقي الذي جاء به موسي عليه السلام ولكن القانون لم يأت علي كل شكل كتلة واحدة كالوصايا العشر. ولكنه ورد كآيات متفرقة في عدد من السور .وقد عقد الدكتور محمد عبد الله دراز مقارنة بين القانون الأخلاقي في القرآن وبين ما جاء في التوراة والإنجيل:الوصايا العشر كما جاءت بكل من التوراة والقرآن ويتبين له أن أسس القانون الأخلاقي ظلت محفوظة بالقرآن. إذ جاء عيسي عليه السلام فقال عن هذا القانون ¢فمن نقض إحدي السماوات وأما من عمل وعلم فهذا يدعي عظيمًا في ملكوت السماوات¢. كما أعلن عليه السلام أنه لم يأت ليلغي وينسخ وإنما ليكمل قال ¢قد سمعتم من قيل للقدماء "كذا" وأما أنا فأقول لكم ""كذا"" كان يقصد أنه كان يولي من بعدهم مهمة التطهير الأخلاقي التي بدأها المرسلون من قبله. والتي كانت تنتج مجالًا للتقدم والرقي¢ ولو مضينا- مع المرحوم الدكتور دراز لتتبع الوعظ الإنجيلي حيث أثبت أن هذه المبادئ قد عزها كتاب الإسلام لاحتجنا إلي مبحث كامل. يقول تعالي: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" "المائدة: 48".ومن يتأمل ما جاء في القرآن والإنجيل سيجد أن القرآن يوضح أعمال الرسل ويؤيد شرائعهم. ويوحد مختلف الاتجاهات في إطار قانون أخلاقي واحد ¢فكم هو جميل أن نري كتابًا أخلاقيًا قد جمع بين دفتيه حكمة الأولين. فضلًا عن أنه قدم في وقت واحد وبهدف واحد عديدًا من الدروس¢ ولهذا لابد من توثيق الصلة بين الأخلاق والدين. والحديث عن الدين يستحثنا هنا لدراسة نظرة الإسلام إلي الفضيلة وكيف حددها القرآن بمعيار دقيق وقبل تناول تفاصيل الإضافات الجديدة في الإسلام. فإنه ينبغي بحث كيف حدد القرآن الحكيم الفضيلة بالنظر إلي مستويات السلوك الإنساني. الفضيلة في القرآن: رأينا نقد ابن تيميه لفكرة الفضيلة في فلسفة أرسطو الأخلاقية بسبب أنها اعتبارية ولا يجمعها حد جامع واضح يميز تمييزًا دقيقًا بين طرفي التفريط والإفراط .وفي العصر الحديث أدي نظر الدكتور دراز للآيات القرآنية إلي أنه استخلص منها تعريفًا منضبطًا للفضيلة بالنظر إلي المستويات الإنسانية منها. فإن طرق الناس في سلوكهم لا يتعدي صدورها عن إحدي النزعات الثلاث الآتية: إما نزعة الاستئثار وإما نزعة الإيثار وإما نزعة المبادلة والمعادلة .ويري الدكتور دراز أن البيان القرآني أفاض في ذم سجية الأثرة والبغي والعلو. بينما وزع القيم الأخلاقية قسمة ثلاثية في طرفها الأعلي فضيلة الإيثار والطرف الأدني رذيلة الاستئثار. ولم يعتبر مبدأ المقاصة الدقيقة في الحقوق والواجبات فضيلة أو رذيلة لأنه بمثابة رخصة مباحة لا يستحق المدح أو الذم وآية ذلك قوله تعالي: - وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلي * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَي الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابى أَلِيمى *وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ - "الشوري: 41 - 43" وقوله تعالي - لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ - "النساء: 148". وقوله - إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءي فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا - "النساء: 149". النهي أولًا عن تعامل الناس بالفاحش من القول لأنه يستوجب غضب الله. مع استثناء من كانت إساءته ردًا لمظلمة. ثم وضع الخطة الحميدة والفضيلة المندوب إليها وهي خطة العفو حتي يستحق مغفرة الله - أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ - "النور: 22". يقول الدكتور دراز ""وهكذا تمضي إرشادات القرآن الحكيم ناهية عن التزيد في حق النفس. حاضة علي الزيادة في حق الغير. مخيرة المعاملة بالمثل دون نهي عنه أو تحريض عليه¢ هذه سمة أولي من سمات الفضيلة. أما السمة الثانية فتتعلق بنفاذها إلي أعماق الضمير حتي يتشربها القلب فتصدر عنه بترحاب وطيب خاطر ومحبة. لا عن جهاد خلقي شاق. علي عكس بيان الفلاسفة. فقد أشار مؤرخو الفلسفة إلي زعم سقراط أن الإنسان مجرد عقل فحسب. ثم أضاف أفلاطون إليه العاطفة. وجاء أرسطو فرأي أن الإنسان يشتمل أيضًا علي إرادة فعالة. مبينًا أن الفضيلة ليست علمًا تنزع بصاحبه إلي العمل مع قصور الهمة. بل هي عمل يبرز إلي الوجود. ويحتاج إلي الرياضة والتدريب حتي يصبح عادة ثابتة وخلقًا راسخًا.ولكنها في هذه الحالة. قد تصبح الفضيلة عملًا آليًا تسخيريًا تمجه النفس. أما الفضيلة في القرآن الكريم. فهي ترتقي بالنفس الإنسانية لتصبح عملًا انبعاثيًا محببًا إلي القلب. مصداق ذلك قوله تعالي: - وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمى حَكِيمى - "الحجرات: 7. 8". وعلي العكس من ذلك. فإن فاعل الخير المفتقد لأريحية النفس له ليس خليقًا بأن يسمي خيرًا ويسجل القرآن المجيد هذه النظرات: - وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا - "التوبة: 98" - وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَي وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ - "التوبة: 54" - أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّي * وَأَعْطَي قَلِيلًا وَأَكْدَي - "النجم: 33. 34". وقد رسم القرآن الحكيم الطريق العلمي لتربية الإنسان الفاضل مخاطبًا الفرد والمجتمع. فإذا كان المجتمع هو الأساس الأول الذي يقوم عليه بناء الدولة. فإن العناية بالفرد. وهو لبنة في بناء المجتمع يصبح ضروريًا وأساسيًا إذا أردنا لهذا البناء القوة والمنعة ويختلف الناس في سلوكهم بين المتخبط في الحضيض. أو المتهادي في القمة أو السائر وسطًا. وإذا أردنا الارتفاع بالمستوي الأدني والأوسط إلي القمة. فعلينا البدء بالأخلاق لأنها أول الخيط الذي يصل بنا إلي الغاية.وقد وضع الإسلام فلسفة إصلاح المجتمع وتقويمه علي قاعدتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعند تطبيق هذه القاعدة يري الدكتور دراز أنها تتجه اتجاهين: الأول: اتجاه إيجابي والثاني: اتجاه سلبي.مثال الأول قوله تعالي: - يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ - "لقمان: 17". وذلك في إطار فردي وللفيعة: - كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةي أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ - "آل عمران: 110". وقوله تعالي ¢ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَي الْأُخْرَي فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّي تَفِيءَ إِلَي أَمْرِ اللَّهِ - "الحجرات: 9". وفي حالة التداخل للإصلاح بين المتنازعين والحض علي قول كلمة الحق حين يدعو الداعي إليها. فإن الساكت عن كلمة الحق شيطان أخرس - وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمى قَلْبُهُ - "البقرة: 283". أما المثال المعبر بجلاء عن الاتجاه السلبي فإننا نعثر عليه في الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك إذ نفذ الرسول - صلي الله عليه وسلم - مبدأ مقاطعتهم وأمر المسلمين جميعًا بالتنفيذ الشامل.وهكذا رأينا كيف يحدد القرآن الفضيلة ويسمو بالإنسان للارتقاء الأخلاقي المنشود. ويصنع له الخطة التربوية لبناء المجتمع الفاضل.