* امتلأت السجون المصرية بالمعتقلين والسجناء الإسلاميين عدة مرات في تاريخ مصر الحديث.. كان أولها عقب اغتيال النقراشي باشا في الأربعينيات.. وبعد محاولة اغتيال عبد الناصر في1954بصرف النظر عن حقائق المحاولة ومن تسبب فيها. * وكذلك تكرر الأمر1965وذلك بعد اتهام مجموعة بتكوين تنظيم مسلح لتغيير نظام ناصر وكان السجن الرئيسي في هذا الوقت هو السجن الحربي الذي تحول إلي استاد القاهرة.. ثم امتلأت السجون المصرية مرة أخري بالآلاف عقب اغتيال الرئيس السادات وما تلاها من أحداث.. وكانت وقتها كل سجون مصر من أقصاها إلي أقصاها تعج بالمعتقلين من كل التيارات الإسلامية بلا استثناء.. ثم امتلأت مرة أخري في منتصف التسعينيات.. ثم عادت للامتلاء مرة أخري بعد عزل د.مرسي من الرئاسة. * لقد راجعت تاريخ كل هذه المرات وقابلت الكثيرين ممن عاشوا هذه الفترات سواء ً من الإسلاميين أو الضباط أو الشاويشية.. وسألت الجميع سؤالا ً واحدا ً: من أكثر من تحمل العنت والمشقة والتعب في هذه الفترات.. ومن أكثر الناس تضحية وبذلا ً ووفاء ً في كل هذه الفترات؟ * فأجمع الجميع علي أن الأمهات والزوجات هن اللاتي تحملن مشقة وتعب هذه الفترات وكن أكثر الفئات وفاء ً وبذلا ً وعطاءً.. فهن اللاتي واظبن علي الزيارات دون انقطاع وتحملن الإهانات والتفتيشات والصعوبات وقطعن آلاف الكيلو مترات من أقاصي الصعيد أو الدلتا إلي سجون القاهرة أو المحاريق في الخمسينيات .. أو الوادي الجديد في التسعينيات. * كانت المرأة الصعيدية تقطع ألف كيلو لتذهب إلي ابنها أو زوجها في سجن وادي النطرون أو دمنهور.. والبحراوية تقطع نفس المسافة لتذهب إلي سجن الوادي الجديد.. حتي قال لي أحد ضباط السجن يوما ً:¢لو كنت مكانكم لصنعت لزوجتي تمثالا ً علي ما يصنعونه معكم¢.. قلت له: ¢صدقت وأنا أقول ذلك دوما ً لزوجتي.. وكنت أقول أكثر منه لأمي رحمها الله لأنها ظلت تجري خلفي وخلف أشقائي وأبي ربع قرن دون كلل أو ملل. * لقد منعت الزيارة عن سجن العقرب 8 سنوات في التسعينيات.. وكان فيه شاب أسيوطي اسمه عبد الباسط محمود.. كانت أمه ترسل له كل شهر حوالة ومعها رسالة بعد إغلاق الزيارات.. حتي إن أمه لم تره من 1994 وحتي 2001.. فقام أحد الإخوة بتهريب رسالة أم عبد الباسط.. وكانت بسيطة في كلماتها وعميقة في معانيها.. فتأثر بها العنبر كله وصاغ كلماتها صديقي الشاعر السجين عثمان جابر الذي كان يسكن معه في العنبر في هذه الأبيات: * عبد الباسط جاله جواب..ع المظروف من أسيوط.. لعبد الباسط أبو محمود.. متسجل وبعلم وصول..لسجن العقرب المقفول. * في المكتوب: بسم الله ذي الإكرام.. الرب الكافي العلام.. ولدي الغالي يا عبد الباسط.. بابعت لك ميت ألف سلام.. ع الفكر وع الخاطر يا ابني.. وياما باشوفك في الأحلام.. ويا ولدي من آخر شوفه.. ست أشهر وسبع تعوام.. ويا عالم راح أشوفك تاني.. وللا خلاص حسن ل ¢ختام¢.. مشتاقة مشتاقة يا ولدي.. يا ضناي يا أغلي الأرحام. * عامل إيه في السجن يا ولدي.. وعملت إيه فيك الأيام.. بسأل ربي يحفظ بدنك.. أنت وإخوانك ال ¢كرام¢.. م الأمراض ويبعد عنكم.. الشافي كل الأسقام.. مشتاقة مشتاقة يا ولدي.. يا ضناي يا أغلي الأرحام.. * بادعي لك طول ليلي نهاري.. بعد صلاتي وبعد صيام.. بادعي لك من قلبي يا ولدي.. ربي يفك أسرك ده ¢العام¢.. وأعيش وأشوفك متهني.. وأشوف لك عزوة لقدام.. مشتاقة مشتاقة يا ولدي.. يا ضناي يا أغلي الأرحام. * فاكر يوم قبضوك الشرطة.. يوم صرخت أنا قلت قوام.. عبد الباسط دا هو ف ¢حاله¢.. ومالوش في سلاح ولا ألغام.. عبد الباسط عابد ربه.. وللقرآن دا هو خدام.. م البيت للجامع وبيرجع.. وحياته دي صيام وقيام.. مشتاقة مشتاقة يا ولدي.. يا ضناي يا أغلي الأرحام. * قل لي يا ولدي ¢إيش عاوز حاجة¢.. نفسي أبعت كراريس واقلام.. علشان تكتب لي تطمني.. دا كلامك فيش بعده كلام.. بس قالولي السجن دا مانعة.. وكلام المأمور إلزام.. ولما تفرج وآجي أزورك.. ح أدبحلك جوزين حمام.. وأنا كل هلال كده بابعتلك.. دي حوالة ووياها سلام.. شهر بشهر يا ولدي ما بانسي.. واللي ده ينسي ضناه يتلام.. مشتاقة مشتاقة يا ولدي.. يا ضناي يا أغلي الأرحام. * حكيني وقل لي علي أخبارك.. ويا ولدي فاضلك كده كام.. قربت تخلص دي المدة.. ولا ده لسة فيه أحكام. * ربي يا ولدي ييسر أمرك.. ويفرج ضيق الأيام.. ويفرج عنك وإخوانك.. حتي إخوانك في الإعدام.. ونهاية مرسالي ادعيلك.. بالصحة وبالعافية قوام.. مشتاقة مشتاقة يا ولدي.. يا ضناي يا أغلي الأرحام.. مشتاقة مشتاقة يا ولدي.. يا ضناي يا أغلي الأرحام. * والغريب في الأمر أن هذا الشاعر عثمان هو خلف القضبان الآن فقد عاد إليها مرة أخري.. ونسأل الله له ولأمثاله الفرج. * أما أم عبد الباسط وأخواتها من الزوجات والأمهات المصريات الأصيلات والبسيطات هن اللاتي حملن هموم مصر في كل محنها وسجونها ومعتقلاتها وكذلك فقرها وعوزها.. وكذلك كفاحها وحروبها في 56 و67 و73 تحية لهن وسلامى عليهن الأحياء منهم والأموات.