لحج رحلة إيمانية كريمة مباركة.. تغفر فيها الذنوب.. وتمحي فيها العيوب.. وتطمئن فيها القلوب. رحلة تسكب فيها العبرات.. وتستجاب فيها الدعوات.. وتتجلي فيها الرحمات. ويرجع أصحابها إن صدقوا بمغفرة رب الأرض والسموات.. وقد طهروا من كل ذنب وعيب كيوم ولدتهم الأمهات. يقول الله عز وجل: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتي وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًي لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتى بَيِّنَاتى مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيّى عَنِ الْعَالَمِينَ. وفي الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يارسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال المسجد الحرام. قلت: ثم أي. قال: المسجد الأقصي قلت: كم بينهما قال: أربعون سنة قلت: ثم أي. قال: ثم حيث أدركت الصلاة فصل "فالأرض" كلها مسجد¢ فأول بيت وضعه الله للعبادة في هذه الأرض هو بيت الله الحرام. واختلف الناس في أول من بناه فقيل: الملائكة. وقيل: إن أول من بناه هو آدم عليه السلام. وقيل: إن أول من بناه هو إبراهيم عليه السلام. والراجح أن قواعد البيت قديمة وأمر الله إبراهيم وإسماعيل أن يرفعا هذه القواعد. كما في قول الله عز وجل: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. وفي الحديث الطويل الذي رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً لتعفي أثرها علي سارة. ثم جاء بها إبراهيم وبإبنها إسماعيل وهي ترضعه حتي وضعها عند البيت عند دوحه فوق زمزم في أعلي المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفي إبراهيم منطلقاً أي عائداً فتبعته أم إسماعيل فقالت يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنس ولا شئ. فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: الله أمرك بهذا. قال:نعم. قالت إذن لا يضيعنا. وفي رواية صحيحة قالتپهاجر عليها السلام "قد رضيت بالله" ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتي إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادي غَيْرِ ذِي زَرْعي عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتي إذا نفد ما في السقاء. عطشت. وعطش ابنها. وجعلت اتنظر إليه يتلوي- أو قال: يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه. فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها. فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل تري أحداً؟ فلم تر أحداً. فهبطت من الصفا حتي غذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها. ثم سعت سعي الإنسان المجهود. حتي جاوزت الوادي. ثم أتت المروة. فقامت عليها. فنظرت. هل تري أحداً؟ فلم تر أحداً. ففعلت ذلك سبع مرات - قال ابن عباس: قال النبي: "فذلك سعي الناس بينهما - فلما شرفت علي المروة سمعت صوتاً. فقالت صه تريد نفسها- فإذا هي بالملك عند موضع زمزم. فبحث بعقبة - أو قال بجناحه حتي ظهر الماء. فجعلت تحوضه. وتقول بيدها هكذا. وجعلت تغرف من الماء في سقائها. وهو يفور بعدما تغرف. قال ابن عباس: قال النبي: "يرحم الله أم إسماعيل. لو تركت زمزم - أو قال-: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً:. قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة. فإن هاهنا بيت الله. يبنيه هذا الغلام وأبوه. وإن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعاً من الأرض. وفي حديث علي عند الطبري بإسناد حسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري فناداها جبريل فقال: من أنت. قالت: أنا هاجر أو أم ولد إبراهيم. قال: فإلي من وكلكما. قالت: إلي الله. فقال: وكلكما إلي كاف. ...وبعد ذلك جاء إبراهيم إلي إسماعيل بعد ما بلغ إسماعيل مبلغ الشباب وقال إبراهيم: ¢يا إسماعيل إن الله أو في بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك قال وتعينني قال وأعينك قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً وأشار إلي أكمة مرتفعة علي ما حولها. قال ابن عباس: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتي إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه إبراهيم وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ". وهذا الحجر الذي قام عليه إبراهيم ليتم البناء هو المقام وكان لصيقاً بالكعبة حتي أخره إليپموضعه عمر بن الخطاب حتي لا يعوق الطواف. وهكذا بني إبراهيم البيت وبقي موضع الحجر الأسود فقال إبراهيم لإسماعيل اذهب فالتمس لي حجراً وضعه ههنا. كما في الحديث الذي أخرجه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهوية في مسنده وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والأزرقي ورواه الحاكم في المستدرك وصححه ورواه البيهقي في الدلائل من حديث علي بن أبي طالب "فذهب إسماعيل يطوف في الجبال فنزل جبريل بالحجر فوضعه. فجاء إسماعيل فقال لأبيه: من أين هذا الحجر؟ قال: جاء به من لم يتكل علي بنائي ولا بنائك فلما فرغ إبراهيم من بناء البيت أمره الله عز وجل أن يأذن في الناس بالحج فقال إبراهيم: رب وما يبلغ صوتي فقال أذن وعلينا البلاغ قال إبراهيم: كيف؟ فماذا أقول؟ قال: قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلي البيت العتيق. فسمعه من بين السماء والأرض ألا تري أنهم يجيئون من أقصي الأرض يلبون" أي يقولون لبيك اللهم لبيك. والحديث رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي عن ابن عباس بأسانيد قوية كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح في كتاب الحج. وذكر الإمام السيوطي في الدر المنثور كل هذه الروايات لمن أراد أن يراجعها. و هذه هي قصة بناء البيت بإيجاز شديد في قوله جل وعلا: "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتي وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًي لِّلْعَالَمِينَ".