نواصل ما بدأناه في العدد الماضي عن سيرة ومسيرة الجمعية الشرعية فنقول عن تاريخها ونشأتها ووضع قانونها وأغراضها: تأسست هذه الجمعية المباركة في غرة المحرم من العام الواحد والثلاثين بعد الثلاثمائة والألف من هجرة المصطفي صلي الله عليه وسلم. الموافق للحادي عشر من ديسمبر من العام الثاني عشر بعد التسعمائة والألف من ميلاد المسيح عليه السلام. فكانت بذلك أول جمعية منظمة تدعو إلي إحياء السنة وإماتة البدعة. فاستحق مؤسسها بأن يطِلق عليه أتباعه ¢إمام أهل السنة¢. وحتي تنطلق مسيرتها بعيدة عن نوازع الانحراف عمد- رحمه الله- إلي وضع الضوابط والقوانين التي تضمن استقامتها علي الطريق السوي. "وكان ذلك قبل أن تضع وزارة الشئون الاجتماعية نظم الجمعيات الأهلية". ولم يشأ- رحمه الله- أن يستقل بوضع هذا القانون فأشرك معه أفاضل العلماء حيث يقول عن ذلك: ¢ولقد فكر طويلا جمع من أفاضل العلماء في إبراز جمعية لا عمل لها إلا التعاون علي البر والتقوي عملا بنحو قوله تعالي: "وَتَعَاوَنُوا عَلَي الْبِرِّ وَالتَّقْوَي" "المائدة :2". ثم يقول: ¢فتمَّمُوا ما فكروا فيه علي صورة لا تصل إليها يد عابث ولا تقف أمامها حيلة محتال. وسموها: ¢الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية¢. ووضعوا أساسها ورتبوا نظامها وسنوا قانونها. ثم قال: ¢فمن ينتسب لهذه الجمعية لابد أن يكون التعاون مبدأه. والعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ديدنه. وأن يكون رجلا ذا رأي وفكر يستطيع أن ينتخب من له قدم في عمل الخير وهمة في دعوة الناس إلي الخير¢. وتولي رحمه الله- بما كان له من خبرة قضائية- وضع هذا القانون في إطاره التنظيمي موزعا علي مواد منضبطة مفصلة حتي تنطلق المسيرة علي هدي وبصيرة. وقدم لهذا القانون مسوغات تكوين هذه الجمعية مما آل إليه حال الأمة حيث قال في مقدمة هذا القانون: ¢لقد علم القاصي والداني ما وصلت إليه حال الأمة الإسلامية من الذلة بعد العزة. والجهل بعد العلم. والفقر بعد الغني والتفرق والانقسام بعد الاتحاد والائتلاف. وما ذلك إلا لانصرافهم إلي اللذات وحب أكابرهم للشهرة. وعملهم بآرائهم في كل شيء حتي فيما يتعلق بأمور الآخرة. فغّيّروا وبدّلوا حتي شوّهوا محاسن الدين غير أن الله يقيض للأمة في كل زمن من ينذرها ويذكرها بتعاليم دينها ويلفت نظرها إلي ما حدث من بدع. وما ذهب من سنن. ويحثهم علي إعادة ما درس. وتشييد ما هُدم¢. وهنا يستشعر الحاجة إلي بيان ما يطلب من المسلمين لإعادة ما درس. وتشييد ما هدم. فيذكّر بالبذل والتضحية. كما فعل الصحابة من المهاجرين والأنصار فيقول- رحمه الله-:¢فهل لكم أيها العاملون بالسنة المحمدية إلي أن تكونوا كما كان أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم أيام بدء الإسلام فقد روي البخاري عَنْ أَبِي مَسْعُودي الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم إذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَي السُّوقِ فَيُحَامِلُ "أي يحمل علي ظهره سلعيا ويبيعها ليكسب ما يتصدق به" فَيُصِيبُ الْمُدَّ "فيتصدق به". وهل لكم أيها الموسرون إلي أن تنفقوا كما أنفق أبوبكر وعمر وعثمان.. هل لكم أيها المطمئنون في دياركم أن تفعلوا كما فعل الأنصار بالمهاجرين حتي يتم الله نوره ولو كره الأشحّاء¢. ثم حدد في هذا القانون أغراض الجمعية بما يأتي: 1- نشر التعاليم الدينية الصحيحة والثقافة الإسلامية لإنارة العقول وإنقاذ المسلمين من فاسد المعتقدات. وخسيس البدع والخرافات. بموالاة الوعظ والإرشاد. من رجال عُرفوا بالعلم والعمل. 2- فتح مكاتب لتحفيظ القرآن الكريم. ومدارس لتعليم أبناء المسلمين أحكام الدين وآدابه وسائر المواد المقررة في المدارس الأميرية تعليميا يتمشي مع روح العصر ولا يتنافي مع مبادئ الدين. 3- إنشاء المساجد لتقام فيها الشعائر الدينية طبق ما جاء به الدين القويم. وتُعلّم فيها العامة أحكام الدين. 4- إصدار مجلة دينية لنشر الموضوعات الدينية والأخلاقية والأدبية وغيرها. ودفع الشبه والطعون التي توجه لدين الإسلام الحنيف. 5- طبع ونشر ما يري نافعا ومساعدا في تثقيف العقول وتهذيب النفوس من المؤلفات الدينية وغيرها. 6- إعانة المنكوبين والبائسين ممن ينتسبون إلي الجمعية ولاسيما من لا يتمكن من العمل بمهنته لتمسكه بدينه. 7- إيجاد مستشفي لمعالجة فقراء المسلمين ونشر المبادئ الدينية بينهم. 8- القيام بنفقة تجهيز موتي المسلمين الفقراء. وإعداد مقابر شرعية لمواراتهم ما استطاعت الجمعية إلي ذلك سبيلا. 9- تضامن كل من ينتسب إلي الجمعية في التعامل بحيث ينحصر تعاملهم فيما بينهم علي حسب الإمكان ليأمنوا من غش الأجانب وتطمئن قلوبهم للتعامل. 10- لا تتعرض هذه الجمعية للشئون السياسية التي يختص بها ولي الأمر. وبالتأمل في هذه الأغراض يتأكد لكل منصف متجرد أن ما تقوم به الجمعية الآن لا يخرج قيد شعرة عن هذه الأغراض العامة. وأن القائمين عليها- بحمد الله- لم يغيروا ولم ينحرفوا في قليل ولا كثير عما قرره الإمام المؤسس منذ أكثر من مائة عام. ولهذا حفظها الله من كيد الكائدين واتهام المغرضين. كما يشعر بأن الأسباب التي من أجلها قامت هذه الجمعية أولا مازالت قائمة الآن. فمن ينكر ما تعاني منه الأمة الإسلامية اليوم من الذلة والجهل والفقر والتفرق والانقسام؟ ثم من ينكر أن الخلل هو ما شخصه الإمام في انصراف الكثير منهم إلي اللذات المادية وحبهم للشهرة ولو علي حساب الدين. وعملهم بآرائهم وأهوائهم حتي في أمور الآخرة؟! هذا ومن أروع ما تضمنه هذا القانون أنه يحصر التعامل والتعاون بين المسلمين ويحذر من الاتصال بالأجانب الكافرين ويضع العقوبة لمن لم يلتزم بهذا المبدأ فيقول: ¢فإن تعامل العضو مع أجنبي لغير ضرورة نُصح له أولا. فإن عاد عرض أمره علي مجلس إدارة الجمعية ليقرر ما يراه بشأنه¢. وكأن الإمام يتحدث الآن إلي فروع الجمعية أن يحذروا من التعامل مع الإرساليات الأجنبية التي تدَّعي أنها جاءت لمساعدة الفقراء وهي في الحقيقة تقدم هذه المعونات توطئة لتخريب عقائد الأمة وقيمها وأخلاقها.