توافقت أدبيات العديد من الإسلاميين حركات وأفراداً علي مفهوم خطير مفاده أن الجماعة قد تؤخذ أحياناً بذنب الفرد سواء رضيت عن معصيته أو لم ترض. وأن شؤم معصية الفرد تتعدي إلي الآخرين علموا بذلك المعصية أم لم يعلموا. أقروا بها أم لم يقروا.. ولهم أدلتهم القوية المتوجهة علي ما ذهبوا إليه. وإن كان لازم هذا المذهب هو الطعن في العدالة الإلهية ورمي الله تبارك وتعالي: بالظلم إذ أنه يعاقب قوماً لا ذنب لهم ولا جريرة بتحمل تبعة مخالفة فرد من الأفراد. وإن كنا نقر ونقرر مذهب السلف القائل: بأن لازم المذهب ليس بمذهب ما لم يلتزمه صاحب المذهب.. يعني طالما أن أصحاب هذا المذهب مذهب تعدي العقوبة لا يقصدون لازم ما ذهبوا إليه فلا يلزمهم ذلك.. وقبل أن نستنفر عشرات الأدلة الشرعية لتصحيح هذا المفهوم رغبة في إنصاف العدالة الإلهية مما قد يلحق بها من تبعات هذا الفهم الناقص لقضية معصية الفرد وتعدي ضررها إلي الآخرين: يمكن أن نقدم لهذا الطرح ببعض القواعد الأصولية رغبة في الوصول لأقرب الطرق وأقصرها في تقرير المسألة وتجليتها وإزالة اللبس والغموض المصاحب لها في أذهان البعض. القاعدة الأولي: إذا كان الإنسان ليس مؤاخذاً بذنب نفسه إذا كان جاهلاً فكيف يؤاخذ بذنب غيره؟ إذ ان مقتضي القياس يدل علي خلاف ذلك. القاعدة الثانية: لا تكليف بمستحيل. وهل هناك مستحيل أكبر من أن يطالب الإنسان أن لا يسرق أخوه. وأن لا يزني جاره وإلا فهو مؤاخذ بكل ذلك وإن لم يبلغه فعل الغير هذا أو إن بلغه ولم يرضه ولم يقره بحال من الأحوال. القاعدة الثالثة: هو أن القائلين بعموم العقاب الرباني هم النصاري بكل طوائفهم. إذ يزعمون أن البشرية كلها قد لحقها اللعن بسبب معصية أبي البشر آدم عليه السلام. ولذا لم يكن هناك مفر من نزول اليسوع المخلص إلي الأرض. بهدف تخليص البشرية من هذا الذنب الملازم لهم منذ خلق آدم حتي اليوم. ويعتقدون أن تضحية الإله الذي في السماء بابنه البكر علي الطريقة التي يرويها النصاري في أناجيلهم فيما يخص عملية الصلب والدفن والقيامة تعالي عما يقولون علواً كبيراً وعلي هذا من قال بعموم العقاب الرباني فقد ذهب مذهب هؤلاد النصاري الذين وصفهم الله تعالي في قرآنه بالضالين. وأما الأدلة التي نزعم أنها تويد مسعانا وفهمنا للمسألة وقد بلغت من الشيوع والزيوع في القرآن الكريم مبلغاً كبيراً ومع ذلك سنكتفي بذكر البعض منها علي سبيل المثال لا علي سبيل الحصر: قوله الله تعالي : "وما كنا معذبين حتي نبعث رسولاً" وقوله تعالي: "ولا تزر وازرة وزر أخري" وقوله تعالي: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعي". وقوله تعالي: "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شر يره" وقوله تعالي: "إن الله لا يظلم الناس شيئاً". أما أدلة القائلين بعموم العقاب الرباني فتتلخص في الآتي: قوله تعالي: "واتقوا فتنة لا تصبين الذين ظلموا منكم خاصة" إذ انهم قالوا لو لم يكن هناك ضرر متعدي ما كان لقول الله تعالي : "لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" من معني. والجواب: أن الأمر باتقاء مغبة فعل الغير تكليف بمستحيل تتنزه الشريعة الغراء عنه. وإنما يكون اتقاء هذه التبعة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب القدرة والاستطاعة. فمن بلغته هذه المعصية فلم ينكر حتي بقلبه وهو أضعف الإيمان كان شريكاً في الإثم مستحقاً للعقاب. لا بمجرد أنها معصية الغير قد لحقت به مذمتها. وإنما ترتبت العقوبة علي تقصيره هو في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بسبب معصية الآخر وحسب. أما الدليل الثاني: فقد استدل أصحاب هذه النظرية بما وقع للصحابة من هزيمة في غزوة أحد علي إثر مخالفة الرماة لأمر النبي صلي الله عليه وسلم بالتزام أماكنهم وعدم تركها ومفارقتها مهما كان من ظروف. والجواب: إن القرآن الكريم حين عالج الواقعة لم ينسب التقصير إلي الرماة كما قد يظن البعض وإنما قال: "إن الذين تولوا منكم يوم التقي الجمعان إنما استذلهم الشيطان ببعض ما كسبوا" ولم يقل القرآن ببعض ما كسب الرماة مثلاً بل قال أهل العلم عدن التعرض لقول الله تعالي : "ولم يقل القران ببعض ما كسبوا" قالوا بذنوب سبقت لهم وليس لغيرهم. ثم إن ما حدث يوم أحد وقع من باب المعصية المتعدية الضرر بطبيعتها. كأن تجلس بجوار أحد المدخنين لا شك أن الضرر المتعدي للغير من جراء التدخين سوف يلحق بك لأن هذه المعصية تنطوي علي ضرر متعدي.. بعبارة أخري حتي لو أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة بالأمر بلزوم المكان وأنهم نزلوا مثلما نزلوا وتركوه لأصابهم ما أصابهم لأن الفعل نفسه يضمن الضرر المتعدي. ثم استدلوا بواقعة حنين وقالوا: لقد عوقب الجميع بشؤم قول القائل: لن نغلب اليوم من قلة" والصحيح الذي عليه المحققون من أهل العلم أن المؤاخذة من أهل العلم لم تقع بسبب هذا القول. وإنما وقعت بسبب عجب في القلوب والدليل أن كل من لم يقع له هذا العجب من الصحابة كالصيدق والعباس وغيرهما قد ثبت ولم يفر من أرض المعركة. ويساند ما ذهبنا إليه ما ذكره الله تعالي في سورة الأعراف عن أصحاب السبت "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون. وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلي ربكم ولعلهم يتقون. فلما نسوا ماذكروا له أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون". لقد انقسم الناس حسب منطوق الآيات إلي ثلاثة أنواع: 1 النوع الأول: هو الذي أتي الفعل المنكر والمعصية المنهي عنها. 2 النوع الثاني: هو الذي أنكر هذا المنكر. 3 أما الصنف الثالث والأخير فهو الذي لم يشرك في المنكر ولم ينه عنه أصحابه حين وقع منهم ما وقع. فكيف عالج القرآن هذا الأمر؟! أنجي الله الذين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. وأهلك الذين اقترفوا المنكر. وسكت عن الذين سكتوا والراجح عند أهل العلم انهم من جملة الهالكين وذلك بموجب قول الله تعالي : "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة". وإن القول بعموم العقاب الرباني يصب في خانة القانون الظالم الذي كانت ومازالت تطبقه مصلحة السجون المصرية حين تتبني سياسة "الحسنة تخص والسيئة تعم" وكانت تعاقب البريء بذنب المسيء خلافاً لكل قوانين الدنيا وشرائع الدين.. وكان ينبغي علينا أن نتوضأ وجوباً لكل من أحدث في شرق البلاد أو غربها!! وعلي هذا الفهم المعطوب لقضية المعصية ينبغي أن يدفع الصالحون ومن لا ذنب لهم فاتورة معصية لم يرتكبوها ولم يعلموا بها لينكروها. ثم ماذا يكون الحكم في شأن ملك من ملوك الدنيا أو حاكم من حاكمها رفع إليه مخالفة ما من "س" من الناس ثم هو لم يعاقب "س" هذا فقط وإنما عاقب إلي جواره "ص" فهل يمكن أن يوصف هذا الحاكم بالعدل؟ أم أن أقل ما يوصف به أنه ظالم؟!! فما لكم تحكمون؟ فهل نرضي أن يوصف الله تعالي بما لا يليق أن نصف به أحد عباده من ملوك الدنيا وحكامه.