إن أي منصف متجرد يقف أمام أنوار المصطفي كالأعشي أمام الضوء الباهر حائرا لا يتبين عن أي جانب يتحدث وأشعة الهدي تتدفق من منهجه في كل مسارات الحياة تكشف السبل الآمنة وتحدد الهدف الأسمي لأي بشر سوي عاقل وحين ترسم الوسائل لهذا الهدف نجدها نبيلة نبل الهدف وحين تتعرض للعلاقات نجدها متوازنة متكاملة مع الله أولا ومع النفس ثانيا ومع البشر ثالثا. النبي مع ربه : أما علاقته بالله فحدث عنها ولا حرج فهو كما شهد له ربه "إن ربك يعلم أنك تقوم أدني من ثلثي الليل ونصفه وثلثه" يظل يصلي بالليل حتي تتفطر قدماه فتسأله زوجه وتذكره بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه فيقول أفلا أكون عبدا شكورا . يسجد لله ويطيل حتي تظن زوجه أنه قد فارق الحياة. يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة. يواصل الليل بالنهار صائما فيحاول أصحابه أن يقلدوه فيرفض ويقول إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني يصلي في رمضان. صلاة القيام في المسجد فيلتف حوله بعض الصحابة يصلون بصلاته فيخشي أن تفرض عليهم فيستخفي بصلاته في بيته؟ يعطي من المال ما يقول عنه بعض الأعراب إنه يعطي عطاء من لا يخشي الفقر يتحدث عنه أصحابه فيقولون كان أجود الناس يشق علي نفسه في العبادة والدعوة حتي يقول له ربه "فلعلك باخع نفسك علي آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا" ويقول "ليس عليك هداهم لكن َله يهدي من يشاء ويقول إن عليك إلا البلاغ. فذكر إنما أنت مذكر". أما علاقته بالبشر فيكفي فيها شهادة ربه "ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". يمثل حاله مع البشر بأنهم يتقحمون في النار وهو يذبهم عنها. يجمع القلوب ويؤلف بين النفوس ويجمعهم علي الحب والتراحم والمودة والبر والتعاون حتي مع المخالفين له في العقيدة. يحميهم ويحذر من العدوان عليهم ويضع نفسه موضع المحامي والمدافع عنهم إذا ظلموا في الدنيا فيقول من آذي ذميا فقد آذاني. وفي الآخرة يقول فأنا حجيجه يوم القيامة. وأما مع المؤمنين فهو الأب الحنون صاحب القلب الرحيم يصفه ربه إليهم فيقول "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم" إن وقوع الأمة في العنت والمشقة في أي عصر أو جيل مما يؤذي مشاعره النبيلة حيث لا يقعون في هذا العنت إلا بمخالفة أمره واتباع أهوائهم كما قال رب العزة "اعلموا أن فيكم رسول َله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم" وهو فينا بسيرته وسنته وأعداء الأمة هم الذين يسعون بكل الحرص والحقد والتآمر إلي جرها بكل الوسائل إلي العنت قال تعالي "ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون" يحذرهم من الذل والجبن فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين. ولن تتحقق العزة إلا بالبذل والإقدام والتضحية والفداء. والمؤمن حين يبذل من عمره أو جهده أو ماله فكل ذلك من منح الرحمن ونعمه. هو الذي وهب الحياة وهو الذي يسلبها متي شاء "إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر". هكذا يريد النبي للمؤمنين أن يلتزموا بتوجيهات رب العالمين حتي يسعدوا ويمكن الله لهم في الأرض. فهذا وعده سبحانه ولن يخلف الله وعده ويحذرهم من وعيده إن هم أعرضوا فليس مع الإعراض عن منهج الله إلا الضنك والذل والهوان والطاعون. أما علاقته بأهل بيته مع زوجاته وأبنائه وخدمه. فليس في اللغة من أساليب التعبير ما يفي ببيان ما تميز به معهم من رأفة وحب وعفو وود. فهو يقسم بين زوجاته بالعدل في المبيت وفي مصاحبته في السفر والغزو. وهو يسترضي من تكره منهن بعض روائح الطعام بأن يحرمه علي نفسه ويعاتبه ربه علي ذلك فيقول "لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك الله غفور رحيم" ويشترك في أعمال المنزل الخاصة بالنساء فيما بين الصلوات تقول السيدة عائشة أم المؤمنين كان في مهنة أهله حتي إذا نودي للصلاة خرج إلي الصلاة وهو لا يكلف زوجاته بما يستطيع أن يقوم به فنراه يخصف نعله بيده. ويرقع ثوبه بيده وهو مع أولاده وأولاد بناته نعم المربي ونعم الشفوق يحملهم علي كتفيه ويقبلهم ويحنو عليهم ويتعجب من ذلك الأقرع بن حابس ويقول أتقبلون الصبيان؟ إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم فيقول النبي الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالي من لا يرحم لا يرحم بل إنه صلوات الله عليه يطيل السجود حتي يتمتع أحفاده بركوب ظهره الشريف وهو ساجد. غير أن هذا الحنان لم يمنعه صلوات الله عليه من التوجيه حين يري من الطفل أي خطأ مهما كان صغيرا فيأمر الحسن أن يلقي تمرة من فمه لأنها من الصدقة والصدقة لا تحل لآل محمد. وينصح ربيبه عمر بن أبي سلمة بكلمات رائعة تحمل منهج السلوك الأمثل حين رأي يده تطيش في الإناء يقول له يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك. ويركب ابن عمه خلفه وهو غلام ويبدؤه بقوله يا غلام ألا أعلمك كلمات "احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة كلها إن اجتمعوا علي أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك. وإن اجتمعوا علي أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك" هكذا يربي فيه العزة والشجاعة ورسوخ الإيمان وهو مع الخدم لا يكلفهم ما لا يطيقون ولا يسألهم عما يقصرون فيه يقول أنس بن مالك خدمت رسول الله صلي الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء تركته لم تركته. بل إنه رفع الحواجز بين السادة والعبيد فسمي العبد فتي وأخا وألزم السيد أن يطعمه مما يطعم قال إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون فإن كلفتموهم فأعينوهم. هذا هو رسول الله.