ورد إلي دار الافتاء المصرية السؤال التالي: هل يعد الجهل عذراً شرعيا لمن صدر منه ما ينافي الإسلام بحيث لا يحكم بكفره؟ وما هو ضابط الجهل الذي يعد عذراً؟ قرر الأصوليون والفقهاء ضوابط للجهل الذي يعذر به والذي لا يعذر به. وقبل الكلام علي هذه الضوابط نريد أن نبين أننا سنذكر هذه المسألة مجردة بعيداً عن الأمثلة في الغالب الأعم. اكتفاء بالتقرير عن التمثيل وذلك لأن أقلام معظم الكاتبين في هذه المسألة يعني: العذر بالجهل أقحمت صوراً كأمثلة عليها لا نراها صائبة في التمثيل. وهذا الاقحام بناء علي عدة مفاهيم يخالفوننا فيها كمفهوم الإيمان والكفر. والأعمال الشركية ونحو ذلك. فرأينا الإضراب عن ذكر الأمثلة التي هي مثار الخلاف في الغالب. وأكثر من ذكر هذه المسألة هم أصوليو الحنفية. ويأتي ذلك من اهتمام بعقد فصل مستقل للأهلية وعوارضها في كتبهم. وعدهم الجهل من العوارض. والحقيقة أن معظم ما ذكره الحنفية وغيرهم من ضوابط للعذر بالجهل يمكن رده إلي شيئين لأنها إما ضوابط ترجع للمكلف نفسه. أو لمتعلق الجهل. أولاً: الضوابط التي ترجع إلي المكلف نفسه: ومرادنا بالمكلف هنا هو من يتمتع بأهلية أداء كاملة. بمعني أنه لم يعرض له أي من عوارض الأهلية سوي الجهل. ولا يعذر من هذا حاله سوي صنفين من الناس: أولهما: حديث العهد بالإسلام. ومن نشأ ببلدة بعيدة عن العلماء. ومثلهما من كان يقيم ببلد يغلب عليها البدعة. ومن كان بأرض غلب عليها الكفر بالأولي والزصل في ذلك حديث أبي واقد الليثي الذي رواه أحمد والترمذي بسند صحيح: "أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما خرج إلي حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط يعللقون عليها أسلحتهم. فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أناط كما لهم ذات أنواط. فقال النبي صلي الله عليه وسلم: سبحان الله. هذا كما قال قوم موسي: اجعل لنا إلها ما لهم آلهة. والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم" ورواه عبدالرازق وابن أبي شيبة في مصنفيهما. والنسائي في الكبري. والبيهقي في الدلائل. والطبراني في الكبير وغيرهم بألفاظ متقاربة. يقول العلامة ابن حجر الهيتمي: "وعندنا إذا كان بعيد الدار عن المسلمين بحيث لا ينسب لتقصير في تركه المجيء إلي دارهم لتعلم أو كان قريب العهد بالإسلام يعذر لجهله. فيعرف الصواب" وقال فيه أيضاً متعقباً قول القائل: "لا يعذر أحد في الكفر بالجهالة": "وما ذكره ظاهر موافق لقواعد مذهبنا إذ المدار في الحكم بالكفر علي الظواهر. ولا نظر للمقصود والنيات. ولا نظر لقرائن حاله. نعم يعذر مدعي الجهل إن عذر لقرب عهده بالإسلام. أو بعده عن العلماء" وقال: "كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة يخفي فيها مثل ذلك". ثانيهما: من لم يمكنه التعلم. بحيث يكون الجهل في هذه الحالة مما يشق الاحتراز عنه. وذلك كأهل الفترة وأزمنة اندثار آثار النبوة. فإذا وقع منه ما يقتضي الكفر لا يكفر. علي أن إمكان التعلم قد يكون بسؤال أهل العلم أو ببذل الوسع في القراءة والتحصيل. كما أنه أي عدم إمكان التعلم من الأمور التقديرية التي يترك فيها المرء وأمانته. وفي قواعد المقري المالكي: "لا عذر بالجهل بالحكم ما أمكن التعلم". ثانياً: الضوابط التي ترجع إلي متعلق الجهل: المراد بمتعلق الجهل هو الشيء المجهول. والضابط الذي يرجع إلي ذلك صفة المسألة المجهولة من حيث الظهور والاشتهار وعدمه. والأصل في ذلك أن ما كان ذائعاً منتشراً لا يقبل دعوي الجهل فيه. فلا يعذر به. ولبيان ذلك ننظر في النقول الآتية ثم نتبعها بالتحليل: يروي القاضي أبو يوسف عن الإمام أبي حنيفة قوله: "لا عذر لأحد من الخلق في جهله معرفة خالقه لأن الواجب علي جميع الخلق معرفة الرب سبحانه وتعالي وتوحيده لما يري من خلق السماوات والأرض وخلق نفسه وسائر ما خلق الله سبحانه وتعالي. فأما الفرائض فمن لم يعلمها ولم تبلغه فإن هذا لم تقم عليه حجة حكيمة بلفظه". يقول الشيخ علي القارئ في شرحه للفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة "اعلم أنه إذا تكلم بكلمة الكفر عالماً بمعناها ولا يعتقد معناها لكن صدرت عنه من غير إكراه بل مع طواعية في تأديتها فإنه يحكم خلاف من غير ترجيح. حيث قال: قيل: يكفر لعذره بالجهل. والأظهر الأول. إلا إذا كان من قبيل ما يعلم من الدين بالضرورة. فإنه حينئذ يكفر ولا يعذر بالجهل. ويقول: حد أصول الدين علم يبحث فيه عما يجب به الاعتقاد. وهو قسمان: قسم يقدح الجهل به في الإيمان كمعرفة الله تعالي. وصفاته الثبوتية. و الرسالة. وأمور الآخرة وقسم لا يضر الجهل به كتفضيل الأنبياء علي الملائكة فقد ذكر السبكي في تأليف له: لو مكث الإنسان مدة عمره لم يخطر بباله تفضيل النبي علي الملائكة لم يسأله الله عنه. ويقول الإمام الشافعي: فقال لي قائل: ما العلم؟ وما يجب علي الناس في العلم؟ فقلت له: العلم علمان علم عامة لا يسع بالغاً غير مغلوب علي عقله جهله. قال: ومثل ماذا؟ قلت: مثل الصلوات الخمس وأن لله علي الناس صوم شهر رمضان وحج البيت إذا استطاعوه وزكاة في أموالهم وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر. وما كان في معني هذا مما كلف العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم وأن يكفوا عنه ما حرم عليهم منه. وهذا الصنف كله من العلم موجوداً نصاً في كتاب الله وموجوداً عاما عند أهل الإسلام ينقله عوامهم عمن مضي من عوامهم يحكونه عن رسول الله ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر ولا التأويل ولا يجوز فيه التنازع. قال: فما الوجه الثاني؟ قلت له: ما ينوب العباد من فروع الفرائض وما يخص به من الأحكام وغيرها مما ليس فيه نص كتاب ولا في أكثره نص سنة. وإن كانت في شيء سنة فإنما هي من أخبار الخاصة. لا أخبار العامة. فالذي يفهم من مجموع هذه النصوص وغيرها أن ظهور مسائل الشرع وذيوعها تكونه عدة عوامل بحيث إذا اجتمعت حكم لها بذلك. وبفقدها تكون من المسائل الخفية التي يعذر جاهلها مع مراعاة باقي الشروط. ومرد هذه العوامل إلي أشياء: منها أن تكون المسألة معلومة من الدين بالضرورة. ومعني علمها بالضرورة أن يستوي في علمها جميع الناس لا فرق بين العالم الجاهل. سواء كانت تلك المسائل من أصول الدين أو فروعه. ومنها: أن تكون من المسائل المنصوص عليها في الكتاب أو السنة. أو أجمع عليها العلماء ويتناقلها الأجيال علي التعاقب بلا خلط أو غلط. أو كونها من المسائل المحكمة التي لا يتطرق إليها تأويل. ومنها: أنها مسائل لا يتعذر علي المكلف رفع الجهل عن نفسه فيها عادة. بحيث لا يشق عليه ذلك. والخلاصة: أن العذر بالجهل يختلف باختلاف جهات أربع. هي الزمان والمكان والأشخاص والأحوال ومما ذكر يعلم الجواب علي السؤال. والله سبحانه وتعالي أعلم