٫ خيال الإنسان وماضيه هما المهرب له من كآبة الحاضر والخوض فيه فيبحث فيهما عن أشياء تسعده وتهدئ من فكره وأوجاعه ويتلمس في جمال الطبيعة والأدب والفن ما يحمل النفس علي الإفلات والبعد عن الآلام لعلها تكون ساعة أو بعضها يشعر فيها بالسعادة والفرحة والرضا والبهجة من الجمال ومداعبة الذكري. قال تعالي: »أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَي السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَي لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ« من يتأمل الآيات يدرك عظمة جمال الكون الذي خلقه الله لأجل حياته ومتعة ناظريه وقوله سبحانه »وَهُوَ الَّذِيْ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُوْنَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوْا إِلَي ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِيْ ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوْنَ. (سورة الأنعام أية99)... ونجد في الجاهلية كيف كان حس الطبيعة في شعر »امرؤ القيس« ودعوته أصحابه لأن ينظروا للسحاب ويرقبوا المطر وغزارة السحاب شارها آثار المطر قائلا: إنه يري أن الجبل الذي ينزل المطر عليه مثل سيد قوم قد تلفف بكساء مخطط فكأن المطر في نزوله تاجر يحاق وكأن أصناف النبات الناشئة عن المطر أنواع من الثياب التي ينشرها هذا التاجر عند عرضها للبيع ثم يشرع في وصف آثاره في الحيوان فكأن المكاكي قد سقيت بعد هذا المطر سلافا من رحيق مغلغل في الأودية التي نزل المطر فيها لحدة ألسنتها وتتابع أصواتها ونشاطها في تغريدها وإذا ترك الطير انتقل إلي السباع فكأن هذه السباع حين غرقت في سيول المطر أصول البطل البرئ لتلطخها بالطين والماء الكدر. ولقد شبه عنترة طيب نكهة حبيبته بطيب روضة ناضرة لم ترع ولم يصبها سرجين ينقص طيب ريحها ولا وطئتها دواب تنقص نضرتها أخذ يصور السحابة التي أمطرت علي هذه الروضة فقد مطرت عليها كل سحابة سابغة المطر لا برد عنها أو كل مصر يدوم أياما ويكثر ماؤه حتي تركت كل حفرة كالدرهم لاستدارتها بالماء وبياض مائها وصفائه. ولقد فضل العرب سكني البوادي كل عائلة تسكن حين تشاء وتنتقل من مكان إلي مكان خلال شهور السنة وفصولها وقد بكي بعض شعراء الجاهلية علي ديارهم ومنازلهم وينتابهم أحيانا الإحساس بالحنين لمدينتهم وكتب امرؤ القيس قائلا: بكي صاحبي لما رأي الدرب نحوه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا.. فقد مر صاحبه بوطن غير وطنه ونزل بأهل غير آهله فاجتاز جبالا وغلبته الوحشة حتي لو كان قد مر علي أماكن أعطتها الطبيعة جلابيب مليئة بالجمال مثل جبال طوروس وغابات الأناضول ومع ذلك بكي حنينا لأهله وعلي فراق وطنه.. وقال الجاحظ في حنينه للأوطان وتري »الأعراب تحن إلي البلد الجدب والمحل والقفر والحجر الصلد وتستوخم الريف وتري الحضري يولد بأرض وباء وموتان وقلة الخصب فإذا وقع ببلاد أريف من بلاده وجناب أخصب من جنابه واستفاد غني حن إلي وطنه ومستقره«. حس الطبيعة كتب شفيق جبري في كتابه بين البحر والصحراء »كتب لي أن أضرب في منازل بني تميم في نجد وأن أبيت في ليلة من ليالي الشتاء ولقد رأيت في جزيرة العرب قحط الأرض وعبوس السماء ورغم موت الطبيعة في صحاري الجاهلية كانت هذه الطبيعة التي أعطت أهل الجزيرة كثيرا من النباتات بما يشبه الحدائق واصفا أنس أبوعبادة البحتري الذي رأي في صباه بلدته »منبج« وطيب هوائها وعذوبة مائها وصحة تربتها وتكامل خياله في هضاب لبنان وغوطة دمشق وبساتين حلب وجنات ونخيل العراق مما جعله يفهم لغة وألحان جمال الطبيعة وألوانها مما جعل شعره قطعة من هذه الطبيعة التي يلجأ إليها مفتشا عن صوره من صور يستلهمها أو يستوصيها.. وهو محب لها ومتصل بها وعندما وقف علي بركة ورأي فيها دجلة وكتب »وهي غيري تنافسها في الحسن طورا وتباهيها طورا وماءها وكأنه الفضة البيضاء تسيل من سبائكها«.. وقد وقف بعض شعراء الفرنجة علي البحيرات كالبحتري »فلامارتين« في نزهة ببحيرة »بورجة«.. سحرته الطبيعة وجمالها ووجد الرفق والهدوء الذي يحمل النفس علي زيادة التأمل وقد وجد »البحتري« في بحيرته والطبيعة كل ما يسر العين والأذن والأنف ومثلت البحيرة »للامارتين« ذكري سعادته مع حبيبته التي فقدها وأشعاره التي امتزجت بروحه. الجاحظ وموليير اختلفت نظرة الشعراء في الجاهلية إلي الظواهر الطبيعية عنها في عهد العباس وبعد ذلك استفاضت الفلسفة واهتم الكتاب بالنثر وإن بقي الشعر وبعض تحليلاته النفسية وإن كان النثر أقدر علي كشف النفوس ودخائلها ورصد وتحليل بواطن النفوس ولقد كتب كل من الجاحظ في كتابه »البخلاء« وكتب مولير »البخيل« وغاص الجاحظ في حياة البخلاء ووصف كيف يعيشون وماذا يأكلون وما هي أساليبهم في الطبخ والملبس والعلاج يأكلون ولا يضيعون أي جزء منها ولا يتكلمون وقت الطعام وكيف كانوا يتداوون من السعال بماء النخالة.. فهو لم يترك أمرا ألا لاحظه وسجله بهدف أن يقدم طرائف عن البخل والبخلاء باعتباره عيبا خطيرا يجب إظهاره بطريقة لطيفة حتي يبتعد عنه كل من تسول له نفسه أن يكون بخيلا.. جعل الجاحظ بخيله يتابع بنظراته أي شخص يأكل معه أو أمامه بقوله: ملاحظة اللقمة فإذا انتخب أكيل هذا البخيل أكلته واختار كل منهوم فيه ومفتون به استلب البخيل من يده اللقمة بأسرع من خطفة البازي« وهي صورة لنوع واحد من البخل وحركاته بملاحقة حركات العين واليد وأيضا ما يجري بالنفس وهذا يعني أنه يصور بخيلا في كل الآونة والبلاد وإذا كان هذا هو حال بخيل العرب ومن مصابين بأمراض النفس فكيف يكون وصف بخيل موليير.. وجعله نموذجا حقيقيا وحيا للبخل والبخيل وهو يصور صاحب المال الكثير وخوفه عليه بشكل كله سخرية وكراهية لأنه ليس القديم الذي يكنز المال تحت الأرض وإنما هو بخيل عصري يقرض المال حتي يثمر ماله وهو بذلك ينسي أن الربح الذي يسعي إليه ليزيد ماله هو ربا عصري وهو يخاف كل شيء ويسيء الظن بكل شيء وهو قلق ومضطرب دائما يفتش الخادم حين خروجه ظنا منه أنه سارق يبدأ باليدين ويتحسس ملابسه حتي يصل إلي القدمين ويفتشها لاعتقاده أن كل من حوله يسرقون ماله. وهنا تتفق كل من رؤية العرب متمثلة في الجاحظ ورؤية الغرب متمثلة في موليير في وصفهم للبخيل بشكل عام وإن اختلفت في تصوير الدوافع النفسية فوضع موليير داخل الشخصية.. كل العيوب الأخلاقية للبخيل مضيفا إليها بعضا من الخيال في تصويره الشخصيات والحركات.. أما الجاحظ فلم تكن غايته تصوير البخل بشكل عام إنما عدد من الصفات التي يحملها كل البخلاء ويظهر بها القلق والتوتر متقنا التدقيق في ظواهر البخيل.