»المعروضات ليست للبيع مهما كانت الإغراءات«، عبارة لفتت انتباهي عندما دخلت إلي منزل الشيخ مسعد الذي جعله متحفاً لعرض لوحاته، وعندما سألته عن سبب كتابة هذه العبارة قال لي إنه أخذ تعهداً علي نفسه بأنه لن يبيع لوحات بعد وصوله إلي 60 عاماً لتبقي هذه اللوحات متحفاً لأجيال الخطاطين الصغار يتعلمون منها شكل الحروف وكيفية كتابتها، وتكون مكاناً مفتوحاً لأي زائر، لم يكتسب هذه الشهرة والمكانة من فراغ بل كان سببها النتاج الإبداعي في أعماله التي عكست تجربة تحمل دلالات كثيرة، لكن أبرز ما فيها هو الدقة في التفكير والجمال في التعبير وهي اللغة المفهومة بين كل البشر، فالفن الحقيقي لايحتاج إلي شرح أو تفسير فهو في مفهومه يعطي صورة حية عن حياة الناس وتاريخهم وثقافتهم! ابن المدينة الباسلة ولد الفنان مسعد مصطفي محمد خضير في 17 أكتوبر عام 1942م بمحافظة بورسعيد، المدينة المناضلة عبرالتاريخ تلك المدينة التي شكلت وجدان وعقل الفنان وتعلقه بها جعله يطلق علي نفسه اسم خضير البورسعيدي، بدأ مسعد منذ صغره يبدي ميلاً ملموساً للخط العربي لالتقاط كل ما يشاهده أو يصادفه من لوحات خطية لكي يتأملها، هذه التلقائية تعكس المهارة الفنية التي صاحبته منذ ولادته والتي هي هبة شخصية من الله فتلقف هذه الموهبة أخاه الأكبر الحاج محمد الذي علمه أساسيات فن الخط ويعتبر خضير أخاه الأكبر هو أستاذه الأول في تعلم الخط العربي حيث أخذ بيده لكي يبدأ ممارساته الإبداعية المبكرة ،تميز وإبداع الطفل الصغير جعله يكسر كثيراً من الحواجز، ففي عام 1948م أيام التطوع لحرب فلسطين كان عمره 6 سنوات وقام بكتابة الشعارات المناهضة لقوات الاحتلال الإنجليزي لمدينة بورسعيد علي جدران المنازل والأبنية وعلي طرق الأسفلت وأكثر العبارات التي كتبها "من يتعاون مع الإنجليز له الموت". من بورسعيد للحسين وكان منذ سن العاشرة يشارك في كتابة الإعلانات التجارية وواجهات المحلات التجارية في أسواق وأحياء بورسعيد، وفي عام 1967م كان الاعتداء علي محافظة بورسعيد فهاجر أهالي منطقة القنال إلي مختلف محافظات مصر وهاجر خضير البورسعيدي إلي القاهرة وافتتح مكتبه في حي الحسين. ابتكر الفنان خضير ابتكاراً فريداً لم يحدث من قبل حيث استطاع أن يكتب كتابة حرة تقرأ من الجهتين ولم يقف عند الحروف اللاتينية فقط بل استطاع كتابة لوحة باللغة العربية بالحروف الصينية وكان هذا الاتجاه من الفنان مؤكداً علي قدرات الخط العربي الجمالية والتكوينية، واستطاع توظيف الخط في قراءات دلالية للنص وظهر ذلك في الكثير من لوحاته، ففي لوحة "نصر الله والفتح" استطاع التصوير بحركة الخط الديواني ولولبيته ليعبر عن دخول الناس في دين الله أفواجاً وفي لوحة سورة الناس استطاع تجسيم السيئات وتشبيهها بالضلوع التي في الصدور وجعل من "كاسات" كلمة الناس مختلفة باختلاف الناس في طبقاتهم. أسرار الخط العربي في البداية طلبت من الشيخ مسعد أن يحدثني عن الخط العربي فقال : عندما نتحدث عن الخط يجب أن نعرف أن الخط العربي مفتري عليه، وأتذكر أنني كتبت لوحة للتوعية بأهمية الخط وضرورة الحفاظ عليه وقلت فيها "الخط العربي أمانة في عنق كل عربي"، وأنا حزين جداً بسبب عدم الاهتمام بالخط، وعاهدت نفسي بأن آخذ للخط حقه وكان ذلك بإنشاء أول نقابة وجمعية للخط العربي في مصر، وباعتباري عضواً بمجلس إدارة لجنة الخط العربي بوزارة التربية والتعليم فإنني أؤكد علي أن الخط لا يأخذ حقه من الاهتمام بالوزارة وجميع الاجتماعات التي نعقدها ونتوصل فيها إلي توصيات معينة ونرسلها للوزير لا ينفذ منها شيء، كما إن عدو الخط العربي بوزارة التربية والتعليم يعمل مستشاراً للوزير لمادة اللغة العربية وهذا لا يجوز إطلاقاً. أين حصة الخط ؟ ويضيف خضير: كانت مادة الخط في الأيام الماضية مادة رسوب ونجاح، وكان مدرس مادة الخط في المدرسة يدخل ويكتب آيات قرآنية وجملاً مفيدة بخط جميل كنت منبهراً به، والمدرس رغم أنه أستاذي فكان يخاف مني عندما أنظر إليه لأنه يخشي أن أعدل عليه لأنه يعلم أن خطي ممتاز فكان هناك اهتمام وكانت تدرس حصة الخط كاملة وليس مثل ما يحدث الآن عندما تكون هناك مادة خط يأخذها الطلبة حصة لعب وإذا كانت الحصة الأخيرة فإنهم يذهبون إلي بيوتهم دون حضورها، وعندما يكون هناك تلميذ خطه متميزاً عن باقي زملائه فإنهم يكونون منبهرين به ويتعلمون منه، والآن الأسلوب الأفضل لتعليم الخط هو أن يعلم التلاميذ بعضهم البعض ثم يعرضون كتاباتهم علي أساتذتهم ليصححوها لهم، وأناشدهم بتشجيع التلاميذ حتي إذا كان خطهم سيئاً لا يقول لهم ذلك بل يوضح للتلميذ كيفية تحسين الخط للحصول علي درجات أعلي فذلك سيجعل التلميذ يتسابق مع الآخرين للحصول علي الدرجة الأعلي. ومنذ إلغاء مادة الخط ونحن في حرب مع وزراء التربية والتعليم لرجوعها وبعد بذل أقصي مجهود لنتوصل إلي اتفاق مع الوزير بإعادتها يأتي تغيير وزاري فيطيح بالوزير ويأتي آخر ونبدأ القصة من البداية، وأريد أن أشير إلي إحدي السلبيات التي ترتكب من قبل الوزراء عند تغييرهم حيث يأتي الوزير الجديد ويقوم بتغيير أثاث المكتب الذي يتكلف عشرات الآلاف من الجنيهات ويأتي بآثاث جديد. مقابلة مع الوزير ويوضح شيخ الخطاطين أن إبراهيم غنيم وزير التربية والتعليم الحالي اجتمع بالخطاطين وناقش قضاياهم ومشاكلهم وتم الاتفاق علي عدة أشياء من بينها انفصال مادة الخط عن مادة اللغة العربية وعودتها كمادة أساسية ومن المنتظر تطبيق ذلك مع بداية العام الدراسي الجديد، وأحال وزيرالتربية والتعليم هذه التوصيات إلي أحد مستشاريه إسمه د.الحصري وطلب منه أن يبحث هذه التوصيات ويطلبنا ويجتمع معنا بعدها ب15يوماً، لكن للأسف هذا الأمر مضي عليه أكثر من 6 شهور ولم يجتمع بنا أو يفعل شيئاً، مشيراً إلي أن أكثر وزراء التربية والتعليم الذي كان يريد إنقاذ الخط العربي وعمل أي شيء له د.أحمد جمال الدين ووزراء الثقافة د.عماد أبوغازي ود.صابر عرب هم فقط من سعوا لمساعدتنا في الحفاظ علي الخط العربي، وفاروق حسني أكثر وزير لم يهتم بالخط. ستة أنواع فقط ويقول شيخ الخطاطين: أنواع الخط العربي 118 أعرف أشكالهم وأكتب 30 نوعاً منهم، المعروف منهم ويجيده الخطاطون حوالي 6 أنواع فقط وهم الثلث والنسخ والفارسي والرقعة والديواني والكوفي، هناك أنواع أخري من الخطوط التي أكتبها منها الإجازة ورجال الوادي والنيسبوري والطومار والأيوبي والفاطمي، مشيراً إلي أن الخطاط الذي يجيد كتابة الثلث ولا يجيد كتابة أي نوع آخر من الخط فإنه خطاط، ومن يكتب جميع أنواع الخطوط ولا يكتب الثلث لا يكون خطاطاً، لأن الثلث عميد عائلة الخط العربي، وخط الثلث صديقي أحبه ويحبني، وأتعامل مع الحروف وكأنها بني آدميين وبشر، حيث أري الحرف عندما يكون زعلاناً وآراه عندما يكون فرحاناً، وأحياناً أكتب حرفاً وأجده زعلاناً فأغيره، وبالنسبة للجو النفسي الذي أرتاح فيه هو أن تكون من حولي البهجة لأن الحرف يظهر هنا وكأنه مرح، أما السكون يجعل الحرف مثل الطفل اليتيم الذي تربي وحده ولم يجد أطفالاً حوله، ولابد أن تكون نفسية الخطاط جيدة حتي يعلم الناس ولا ينظر إلي الجانب المادي وإذا نظر له لن يفلح، فالخط يجب أن تعطيه حياتك، وأحد المشايخ الكبار سألني سؤالاً حينما كنت صغيراً لن أنساه حيث قال لي "تختار المادة أم الفن" فقلت له الفن طبعاً "فقال" هتوصل بس المادة هتجيلك متأخرة بعدما يكون لك اسم". أين جيل الكبار وأكثر الأشياء التي جعلتني أنجح أنني كنت أري خطاطين جدداً ظهروا والكبار اختفوا وحينما سألت عرفت أن الذي يتميز خطه عن الآخر حتي إذا كان معلمه فإنه يكون أكثر شهرة منه وبالبلدي" يغطي عليه" فعملت علي أن أتميز عن الجميع، وكل يوم أكتب لوحة بخلاف الأخري، حتي آخذ عقلي علي التفكير ودائماً أقول لنفسي "إذا كان خطي ضعيفاً فأفكاري جيدة". ويشير خضير إلي أنه كتب المصحف كاملاً إلي التليفزيون في أكثر من 6 آلاف لوحة، ولم تكن التكنولوجيا متطورة مثل الآن، حيث كنت أكتب أستمع إلي قراءة الشيخ وأكتب معه الآية، وإذا كررها مرة ثانية أو أعاد قراءة كلمتين من الآية فإنني أكررها معه، وبالنسبة لدور التكنولوجيا فإنه هام ولابد منه لكنها لم تفد الخط بقدر الضرر الذي ألحقته به، موضحاً أنه يكتب آيات قرآنية وأحاديث شريفة وحكماً وأشعاراً وأمثالاً هادفة، وعن اختياره لما يكتبه قال إنه يختار العبارات المبشرة التي تفرح الناس ولا تغضبهم، ولا أكتب شيئاً إلا أكون فاهماً معناه ونفسي أعمله، وعن اختيار أنواع الخط يقول إن الجملة هي التي تختار نوع الخط الذي تريد أن تكتب به حيث تحدثه وتطلب منه ذلك. نصيحته إلي تلاميذه وأراد أن يختم كلامه برسالة يوجهها للخطاطين من الشباب الذين في بداية حياتهم وقال "منهم من أخذه الغرور بعدما شجعته وقلت له ستكون مستقبل مصر وأوصيته أن هذا العمل إما سيرفعه ويشهره أو سيدمره وللأسف أخذه الغرور ولم يفلح في الخط، وطالب الخطاطين من الشباب بعدم نسيان جميل معلمه وألا يحقد عليه، مشيراً إلي أن هناك مجموعة ليس لديهم انتماء لمصر وانتماؤهم لتركيا والسبب أننا نجد بعض ممن تتلمذوا علي يد أساتذة خط مصريين ينكرون هذا الجميل ويتباهون بمن تعلموا علي أيديهم بعد ذلك من الأتراك، وقد يكون الجانب المادي من أسباب ذلك فسعر اللوحة عندما يكتبها تركي بآلاف الدولارات بالنسبة إلي لوحة كتبها عربي، حيث إن الإقبال علي اللوحة يكون حسب اسم الفنان أهم من المكتوب عليها عند كثير من الناس، مؤكداً علي أنه لا يوجد شيء يزعجه إلا إذا اتهم بأي شيء مهما كان صغيراً، ولا يقلقه أو يزعجه موضوع المال موضحاً أنه شب حريق في إحدي شققه وأكلت النيران أموالاً وخسر أشياء كثيرة لكنها لم تؤثر فيه مثلما يوجه له أحد اتهام، وإذا كسبت مبلغاً مالياً مهما كان حجمه فإني أحتفظ بنصفه وأتصدق بالنصف الآخر علي الفقراء والمحتاجين، وعبر عن استيائه من حال الخط العربي قائلاً"جميع الدول تهتم بالخط إلا مصر"، وأنشأنا جمعية للخطاطين لم ينضم إليها سوي 7آلاف شخص والنقابة بها 700 شخص فقط .