لونان صريحان.. في الأبيض يكمن الضياء والصفاء والبراءة، وفي الأسود تعشش القتامة والعتامة والمجهول المخيف.. أبيض وأسود.. زمن سينمائي جميل كانت تتصف معانيه برموز اللونين الصريحين في محتوي الأفلام البديعة التي كونت تراثا عظيما للسينما المصرية: اللص والكلاب.. الزوجة الثانية.. البوسطجي.. المستحيل.. بداية ونهاية.. دعاء الكروان.. السراب.. ثرثرة فوق النيل.. الشموع السوداء وقائمة طويلة مما نطلق عليه الآن زمن الفن الجميل حيث يتبدي جماله ووضوحه في صراحة اللون الأبيض بالمقارنة الصارخة للون الأسود الرامز لكل قبح وإثم فقد كان الضوء الساطع يفترش الشاشة معلنا عن لحظات الحق والخير والجمال ثم ينحسر ليحل الظلام في لحظات الضلال والشر والخطيئة. أبيض وأسود: قبلة الحق ومابينهما رمادي زائغ لاقوة لحضوره في ذلك الزمن حيث كانت القيم واضحة كشمس الظهيرة الساطعة، والطرقات فسيحة وناعمة كالحرير المخملي.. وعندما كنا نشرب الماء من »الحنفية« طاهرا نظيفا لايهددنا بالفشل الكلوي بل يداوي ظمأنا كأنه الترياق الشافي.. وعندما كانت الأطعمة نقية خالية من المواد الحافظة ومكسبات الطعم، والخضروات والفواكه غير مفسدة بالكيماويات المسرطنة والمبيدات.. ثم انظروا إلي المواصلات العامة وجمال الشوارع النظيفة غير المزدحمة لتتحسروا علي الانفجار السكاني الحالي والقذارة المتفاقمة للطرقات.. وفي الأفلام الأبيض والأسود عمارات سكنية جميلة وشقق خالية للإيجار سمحت أيامها لمحدودي الدخل بالإقدام اليسير علي الزواج فلم نسمع عن حوادث اغتصاب وتحرش بسبب الكبت وفي تلك الأفلام أيضا كان الطبيب الصيدلي يطارد المريض بالبث الإذاعي لأن »الدواء فيه سم قاتل«.. فكم طبيبا يفعلها الآن في ظل انتشار أدوية مغشوشة ومنتهية الصلاحية؟! وفي زمن أفلام الأبيض والأسود كانت المدارس الحكومية تتفوق علي المدارس الخاصة التي كانت محدودة العدد ولايدخلها إلا المتعثرون دراسيا أو الراغبون في اكتساب مهارات لغوية، فانظروا الآن إلي حال التعليم المتدني علي الجانبين لاسيما أن الحسرة الكبري تكمن في سوء التعليم الحكومي الذي أخرج لنا منذ زمن الأبيض والأسود كل جهابذة مصر في جميع المجالات فإذا به الآن يعمل علي تفريخ جيل من الجهلة غير الأسوياء فكريا. في زمن الأبيض والأسود، كان الأدب سيد الشاشة حيث كان نجيب محفوظ يدعم الفكر السينمائي بإنتاجه الأدبي وكذلك إحسان عبد القدوس ويوسف إدريس وغيرهم. في زمن الأبيض والأسود كانت الشاشة السينمائية مثل المهدئ العصبي فلا ضوضاء، ولاسيارات انتهي عمرها الافتراضي تعوق سيولة المرور ببطئها المميت وتقتل الهواء النقي بالعوادم الفتاكة.. ولاتكدس مروريا يحيل العاقل إلي مجنون.. باختصار.. مصر كانت أجمل في زمن الأبيض والأسود.