رحل عن دنيانا منذ فترة قصيرة الأديب والمفكر والمترجم وأستاذ الفلسفة والكاتب المسرحي الدكتور عبدالغفار مكاوي وقد عرفت الرجل عن قرب، وقرأت له بعض كتبه وترجماته ومازال عالقا في ذهني قراءتي لكتابه (النبع القديم) الذي يتحدث من خلاله عن أهم منبعين لإنجازاته الفلسفية والأدبية والمسرحية، وهما منبع الشعر، ومنبع العمر، فمن خلال قراءاته للشعر، ومن خلال استلهامه بما مر به من واقع دنياه، تبلورت رؤياه للأمور والحياة. إنه يحدثنا في إحدي لوحاته القصصية في هذا الكتاب عن أول فيلم رآه، وكان بطله شارلي شابلن الذي يسخر فيه من هتلر وجنونه وطغيانه، ويتساءل هل كان هذا الفيلم سببا لإبداعاته الفنية.. إنه يقول: »ولست أدري إن كانت صورة الطاغية المرعب والمضحك قد تسربت علي مر السنين إلي لا وعي، وعملت مؤثرات أخري عديدة علي أن تصبح قضية الحرية هي قضيتي الوحيدة في الحياة، وأن تدور معظم أعمالي المسرحية والقصصية القليلة المتواضعة حول موضوع الطغيان والطغاة الكبار والصغار سواء في ذلك المزيفون والمتطهرون والدمويون. ويحدثنا عن فيلم آخر رآه في صباه عن صراع المتوحشين وأن هذا الفيلم الذي طالما كررت السينما العالمية نسخا أخري منه، ربما أوقفه ذلك إلي التفكير والوقوف أمام لغز الإنسان، ومحاولة فهم هذا اللغز ويقول: ولعلي أيضا قد تذكرت هذا الفيلم عندما كنت أقلب بمحض الصدفة في أوراق قديمة ومنسية، وجدت بينها فصلا طويلا عن العبقري (ماكس شيلر) (1874- 1928) الذي يعد في عصرنا مؤسس ما يسمي بالأنثروبولوجيا الفلسفية، التي تتقصي ماهية الإنسان ووضعه المتميز في الكون عن سائر الكائنات العضوية وغير العضوية، وتفرده بالعقل وقدرته علي العلو والتجاوز والإبداع.. إلخ. أيكون ذلك بداية اهتمام بهذا الفيلسوف أو بالأحري بداية التفكير في الرجوع إلي مشروع قديم عنه؟ وهل ستسمح متاعب الشيخوخة وأحلام الكتابة المسرحية والقصصية بالتوفر علي هذه الشخصية كما توفرت من قبل واسفاه علي عشرات غيرها من الفلاسفة والشعراء والأدباء! مهما يكن من شيء فقد كان الدكتور عبدالغفار مكاوي قامة عالية في عالم الفكر والأدب والمسرح والفلسفة، وستظل أعماله باقية تميز للأجيال طريق الحياة، نحو حياة أكثر رقيا وتحضرا ووعيا.. ونحو واقع جديد يعرف معني الفكر، وقيمة الفلسفة، وجمال الفن. رحمه الله