[email protected] أثار"عيد الأم" أحلي وأصدق مناسبة إنسانية ووجدانية الكثير من شجوني وعواطفي الشخصية، وتذكرت المرحومة أمي رمز الطيبة المفرطة، والحب والحنان والعطاء بشكل مطلق ودون انتظار لأي مقابل.. حتي قبلاتي علي يديها ورأسها وقدميها كانت تردها بابتسامات وقبلات وأحضان أكثر حبا وحنانا.. فهل يمكن أن نجد مايضارع أو يرد مثل هذا الفيض من العطاء المجاني من أي شخص آخر في العالم مثل الأم؟.. لا أظن تذكرت، فيمن تذكرت بتلك المناسبة، أستاذي وأستاذ أساتذتي، مصطفي أمين وكان مع توأمه علي أمين صاحبي فكرة عيد الأم، التي تمسك بها شعب مصر ومعه الشعب العربي كله علي الرغم من محاربتها ومحاولات إلغائها في البداية، وقد فشلت كل تلك المحاولات بما فيها تغيير الاسم إلي "عيد الأسرة"، لأن من حاربوا الفكرة لا يدركون أن الناس لديها إحساس فطري تجاه الأفكار والمشاعر الصادقة فتدعمها وتتمسك بها.. وعادت إلي ذاكرتي مرة أخري عدة تساؤلات حول شخصية مصطفي أمين ذاته وهو الآن بين يدي الله: هل تجسس الرجل فعلا ضد بلده مصر ؟.. وهل الفترة التي درس خلالها بأمريكا وإعجابه بالحرية والديمقراطية هناك وصلت به إلي أن يبيع بلاده؟ وهل من الممكن أن يكون خائنا بسبب عوز أوحاجة للمال، مثلما ذكر الأستاذ هيكل في حلقاته الفضائية " تجربة حياة" استنادا لماجاء في كتاب أمريكي صدر مؤخرا؟!.. مع العلم أن اتصالات مصطفي أمين مع الأمريكيين كانت بالاتفاق مع الرئيس عبدالناصر في ذلك الحين، لكن يبدو أن هناك من جلس وخطط لاستعمال نفس الأمر للإطاحة بهذا العملاق ذي القدرات والشخصية الخارقة للعادة.. مع التذكير أيضاً بأن الأستاذ هيكل نفسه ذكر في سياق كشفه لسر تمكن الأجهزة المصرية من زرع ميكروفونات تنصت بالسفارة الأمريكية أنه كان يمكن أن يتهم بالجاسوسية هو أيضا لو أسيء تفسير التسجيلات التي تمت خلال سنوات التنصت الأربع. كنت أظن أن الأستاذ هيكل ينبغي أن يكون أول من يستهجن أن يكون المال سببا لخيانة مصطفي أمين أو دليلا من أدلة إدانته، فلم يكن معروفا عنه اللهاث وراء المال وكان الكثيرون يتبرعون بالملايين لمشاريعه الإنسانية ثقة فيه.. كما أنه رفض استعادة ملكية أخبار اليوم العملاقة رغم صدور حكم قضائي بذلك.. وعلي العكس من ذلك فإن معظم من تابع إشارات الأستاذ هيكل للقضية في سياق حلقات سابقة لابد وأنه قد اشتم رائحة محاولة للتقليل من قيمة وقامة مصطفي أمين رغم دوره المشهود في صناعة اسم هيكل ذاته، وهو أمر دأب عليه آل أمين مع الكثيرين من تلاميذهما من أقران الأستاذ هيكل مثل الأستاذين أنيس منصور وموسي صبري وغيرهما.. ومع كل فمكانة مصطفي أمين محفوظة لدي الملايين من تلاميذه ومحبيه من مختلف فئات الشعب، وحتي من خصومه من الموضوعيين ومن لم يرتبطوا بمنافسة أو بكراهية لقدراته وإمكانياته.. وهو أمر لم يستطع أن ينجح فيه بعض زبانية الشر ممن كانوا يحيطون بعبدالناصر وكانوا سببا في الكثير من الأخطاء الكبري لعهد ذلك الزعيم الذي لا يجود الزمن بمثله كثيرا.. ولعل الشعب المصري نخبه وعوامه يدرك حاليا أنه لو سارت الثورة وقتها علي درب تنفيذ أحد أهدافها الستة وهو الديمقراطية، مهما كانت الصعاب من ظروف حرب وغيرها، لكان لمصر الآن شأن آخر في مختلف المجالات، مثلها في ذلك مثل الهند وأندونسيا وماليزيا والصين وغيرها.. ومن المؤكد أن الأسباب التي أدت لتخلصهم من مصطفي هي نفس الأسباب التي تضعه الآن مع من نسميهم " السابقون لعصرهم"، وهم من يدفعون ضريبة الريادة والإقدام ووضوح الرؤية والصدق والإخلاص للبلد.. فكل من يطالب بالديمقراطية حاليا من كل الاتجاهات يمينا ويسارا لا بد وأن يقدر السبق والتضحيات للرجل، الذي عاد وسدد نفس الضريبة مرة أخري في عصر الرئيس السادات، عندما اختتم أحد مقالاته اليومية بجملة " صباح الخير أيتها الديمقراطية " فتم منعه من الكتابة.. وقد كان الرجل يختلف علي المواقف والمباديء وليس المسائل الشخصية والمنافسات الفردية الضيقة، خصوصا وأنه يؤخذ علي هيكل أنه تخلي عن المجموعة التي تمسكت بمواقف عبدالناصر بعد وفاته، وانحاز للسادات في بداية عهده بهدف المحافظة علي نفس الحظوة والمكانة المتفردة لشخصه، لكن السادات لم يتقبل ذلك مدة طويلة وأبعده، فكان انقلاب هيكل عليه بعيدا عن انقلاب المباديء الذي يروج له حاليا، وكانت ردود فعل هيكل ضد السادات مثلما كانت ضد مصطفي أمين عصبية وانتقامية، مثله مثل أي مواطن عادي عندما يغضب.. ولا يقلل هذا من مكانة الرجل المهنية المتفردة علي المستوي العربي والعالمي.. لكنها إشارة إلي السمو النفسي والتعفف الذي كان يتميز به مصطفي أمين، الذي لم يرد لا بالكتب ولا بالمقالات علي أي إساءة أو غضب شخصي بل كان يرد بالتأكيد علي المباديء التي يؤمن بها ويدعو إليها باستمرار.. وهذه هي نفوس الكبار بحق.. كان منطق الزبانية الذين لفقوا اتهام مصطفي أمين ضعيفا وظالما لدرجة أنهم أجبروه علي كتابة اعترافات موجهة للرئيس عبدالناصر تحت خداع أنها الوسيلة الوحيدة التي ستجعل الرئيس يعفو عنه، ثم استخدموا هذه الاعترافات المكتوبة لتعرض علي الناس كحالة نموذجية للجاسوسية، وبالمناسبة فإن عقوبة الجاسوسية لصالح الأعداء غالبا ماتكون الإعدام، فلماذا لم يعدموا مصطفي أمين.. والإجابة ببساطة لأنه كان بريئا، والمطلوب فقط إبعاده وتشويهه، والدليل الآخر لماذا أبعد علي أمين إلي لندن وهو غير متهم بأي شيء، أيضا لأن الإبعاد هو الهدف وقد تم "فبركة" قصة التهريب أو الإبعاد أيضا لتبدو وكأنها خدمة لعلي أمين، لأنه كان أكثر طيبة وأقل إزعاجا للكبار والمنافسين عن توأمه.. وعندما تقرأ اعترافات مصطفي أمين لا تجد جاسوسية ولا يحزنون، بل تجد جرأة في الحديث بسبب الاستناد إلي الاتفاق مع عبدالناصر علي الاتصال بالإضافة إلي بعض قناعاته وآرائه التي كانت معروفة عنه وكانت منشورة في كتبه ومقالاته، لكنها لم تكن تروق للبعض رغم تأييد الرجل للثورة بقوة.. وبالتأكيد لم يكن الرجل يدري أن هناك ثعلبا أو ثعالب تحفر لاستخدام هذه الاتصالات كخيانة وجاسوسية.. في النهاية فإنني أتفق مع كثيرين سبقوني في أنها مسألة مكيدة وضغينة وغيرة من صحفيين وسياسيين في ذلك الوقت، في محاولة لمنع قوة وفعالية وطغيان شخصية مصطفي أمين في الصحافة وفي السياسة وفي مختلف جوانب الحياة المصرية.. إن من يطلع علي ملابسات القضية وبعضها مؤيد للاتهام وبعضها معارض لابد وأن يتفق مع حدس النسبة الأعظم من شعب مصر والشعب العربي في أنه من الصعب أو يكاد يكون من المستحيل أن يكون رجلا كمصطفي أمين جاسوسا أو خائنا لبلده، وهو الذي رضع مع شقيقه في المهد جرعات من الوطنية أكثر من غالبية قرنائهما من الأطفال، فقد تربيا وتذوقا منذ نعومة الأظفار عظمة حب الوطن وجلال العمل في خدمة الشعب في بيت الأمة، بيت "أم المصريين" صفية زغلول، بيت "زعيم الأمة" وقائد ثورة 1919 سعد زغلول.. ومن منا لا يضع سعد إلي جانب عبدالناصر كأعظم زعيمين وطنيين في تاريخ مصر الحديث. إن صاحب فكرة عيد الأم يستحق كلمة إنصاف وهو بين يدي الله.