أكثر من مؤشر يحمله إضراب بازار طهران الكبير .. الذي يدخل أسبوعه الثالث لا يعكس فقط بداية لأزمة حادة يتعرض لها الاقتصاد الإيراني.. لكنه دليل آخر علي تصاعد حدة الاحتجاجات الداخلية تجاه سياسة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد والتي بدأت منذ انتخابات الرئاسة الأخيرة ومازالت أصداؤها تخترق الشارع الإيراني. إلا أن دخول البازار علي خط المعارضة هو مؤشر خطير لايمكن الاستهانة به .. فهو لايشكل فقط القلب الاقتصادي لطهران .. لكنه أيضا أحد أهم وسائل الدعم السياسي للنظام. ويكفي أن نعرف دوره المهم في إسقاط نظام الشاه عام 79 ودعمه للثورة الإيرانية بزعامة الخوميني.. من هنا كان إضراب البازار نذير خطر من الصعب علي الحكومة الإيرانية غض الطرف عنه.. ليشكل بدوره تحديا آخر يضاف إلي جملة التحديات التي تدفع النظام إلي نفق مظلم.. وإن كان البعض مازال يراهن علي قدرة طهران علي تجاوز هذا المأزق بحنكة وذكاء وإن كان الأمر لا يسلم من آثار سلبية يصعب التكهن بمداها. يعد البازار من أشهر الأسواق الإيرانية التي يباع فيها كل شيء بدءا من الأعشاب والتوابل مرورا بالورق والنحاس والساعات والحلويات انتهاء بالسجاد والاحجار الكريمة. والبازار كلمة فارسية تعني السوق أو بمفهوم آخر تشير إلي التجار ويقوم البازار بدور أساسي وفاعل في الحياة الاقتصادية الإيرانية من خلال عمليات المضاربة والإقراض والاستثمار وغيرها مما أتاح له القدرة علي التأثير في حركة الاقتصاد الإيراني وبالتالي القرار الاقتصادي وهو ما يؤكده الدكتور محمد عبد الرحمن يونس العبيدي الباحث بمركز الدراسات الإقليمية بجامعة الموصل في دراسته حول القوي الاقتصادية ودورها في صنع القرار الإيراني ويشير إلي أن تجار البازار يحظون بمكانة متميزة داخل المجتمع الإيراني ويعدون أقوي فئة اجتماعية بعد علماء الدين لما لهم من قدرة علي التأثير في صناعة القرار، هذا التأثير يرجع إلي القوة الاقتصادية التي يتمتع بها البازار والعلاقة الوثيقة التي يرتبط بها مع المؤسسة الدينية وهي علاقة عميقة الجذور. وعلي مدي 31 عاما هي عمر الثورة الإيرانية ظلت العلاقة بين البازار والحكومة علي أكمل وجه.. لم يعكر صفوها إلا وصول أحمدي نجاد إلي الحكم والتي جاءت سياسته الاقتصادية لتصب في غير صالح تجار البازار.. من هنا بدأت بوادر أزمة تصاعدت حدتها لتصل حد الإضراب عام 2008 بسبب استحداث ضريبة جديدة هي ضريبة القيمة المضافة.. ونجح ضغط البازار في إجبار نجاد علي تعليق تنفيذ خطته الضريبية الجديدة لمدة شهرين.. إلا أن الأمور عادت للتأزم مرة أخري بداية هذا الشهر بعدما أغلقت غالبية المتاجر بالبازار الكبير بطهران أبوابها احتجاجا علي عدم التوصل لاتفاق مع مكتب الضرائب حول ضرائب السنة الإيرانية الأخيرة مارس 2009 مارس 2010.. وسط تحذيرات من التجار من عواقب استمرار الأزمة وعدم التوصل لحل سريع لها لتتزايد معها الاحتمالات الأسوأ. ورصدت الصحف الإيرانية مظاهر هذه الأزمة في وجود شيكات بدون رصيد وصلت قيمتها إلي 4 مليارات دولار وهو ما ينذر بمصاعب اقتصادية كبيرة. انعكست الأزمة بشكل واضح علي البازار بسبب ارتفاع تكلفة الاستيراد من الخارج فضلا عن الصعوبات التي واجهتهم في التوريد.. وهو ما أدي إلي تخلي كبار التجار عن الصناعات الإيرانية التي اشتهرت بها طهران وأهمها السجاد والاتجاه إلي السلع الصينية الرخيصة التي رصدت الصحف الإيرانية مدي رواجها في البازار. لم يفت المعارضة الإيرانية استغلال الأزمة الأخيرة لصب مزيد من الزيت علي نار الاحتجاجات التي أججها البازار فدعت جميع التجار الشرفاء في مختلف المدن الإيرانية للتضامن مع بازار طهران.. وترجم خطاب زعيمة المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية رئيفة رجوي ذلك بوضوح عندما أكدت أن الإضراب الواسع يؤكد أن كل فئات المجتمع الإيراني لم تسلم من بطش النظام واعتداءاته.. وأن جميع أبناء الشعب يطالبون بإسقاط الفاشية الدينية الحاكمة في إيران علي حد وصفها. ونفت رجوي أن تكون زيادة الضرائب التعسفية هي السبب الوحيد لاندلاع الإضراب إنما أرجعت ذلك أيضا إلي مشاعر الاستياء لدي تجار البازار وهو ما يشكل بعدا أكبر.. حيث جاء الاحتجاج من وجهة نظرها ليعبر عن الاعتراض علي نظام الملالي وسلطة النهابين وعناصر الحرس الثوري علي اقتصاد البلاد وهو ما أدي إلي إصابة الكثير من التجار بالإفلاس والفقر. والخطر الذي يشكله إضراب البازار علي النظام الإيراني يرجع إلي الأهمية التي يلعبها ليس فقط علي المستوي الاقتصادي وإنما علي المستوي السياسي أيضا علي مدي العصور المختلفة. وقد عرفت إيران الأسواق منذ القدم ولم تكن مجرد أماكن للبيع والشراء أو مقايضة البضائع المختلفة بل كانت مراكز ثقافية واجتماعية ساعدت علي تقدم المجتمع وازدهاره وقامت بدور نشط وفعال في الشئون السياسية وهو ما رصده الدكتور محمد نور الدين عبد المنعم في دراسته عن البازار . وإلي جانب النشاط الاقتصادي للسوق هناك أنشطة دينية وتعليمية واجتماعية وسياسية تتمثل الأخيرة كما رصدتها الدراسة في المشاركة في الحركات والتجمعات التي يقوم بها الناس للتفاعل مع مايجري في البلاد من أحداث. ولعب البازار دورا مهما في دعم ثورة الخوميني حيث ساعد في إسقاط نظام الشاه، ومن هنا لايمكن الاستخفاف بحركة الاحتجاج الأخيرة وهي علي حد تعبير محمد عباس ناجي الباحث المتخصص في الشئون الإيرانية مؤشر علي وجود أزمة اقتصادية حادة داخل إيران والتي بدأت إرهاصاتها منذ عامين بدت في ارتفاع معدل التضخم وتزايد نسبة البطالة، ولم تفلح الإجراءات التي تتخدها الحكومة الإيرانية حتي الآن في الوصول إلي حلول ناجعة للأزمة، بل علي العكس فإن اتجاهها لارتفاع نسبة الضرائب شكل بدوره أزمة جديدة أدت إلي تفاقم المشكلة. ويؤكد ناجي أن الأزمة الأخيرة بين البازار والحكومة ترجع في الأساس إلي العلاقة المتوترة بين تجار البازار وأحمدي نجاد الذي جاء بطرح اقتصادي مغاير لما اعتاده البازار والذي يصب في صالحه، فنجاد يميل إلي الانغلاق وتهدف سياسته إلي تقليص الانفتاح عن الخارج وهو بالطبع مايتناقض مع مصلحة البازار التي تجد في الانفتاح علي الخارج مايحقق لها أكبر المكاسب، من هنا اتسمت علاقة البازار بقادة إيران الإصلاحيين رفسنجاني وخاتمي بدرجة عالية من القوة حيث كانت سياستهما لاتميل لخلق حالة من التوتر مع الخارج علي عكس سياسة نجاد وهو ماكان يصب في مصلحة البازار، فالانفتاح علي الخارج يسهل حركة التصدير والاستيراد بما يحقق رواجا ونشاطا وازدهارا لتجار البازار، وجاء نجاد بطرحه الاقتصادي المختلف والذي يميل إلي الانغلاق والتوتر مع الخارج والذي انعكس بدوره علي البازار الذي بدأت احتجاجاته تظهر إلي العلن منذ أكثر من عام حيث قام تجار البازار باضراب احتجاجا علي سياسة الحكومة الرامية لفرض مزيد من الضرائب.. وتصاعدت حدة الخلافات ثانية مطلع هذا الشهر لتؤثر علي وجود أزمة اقتصادية مرشحة للتصعيد، ولتدلل في نفس الوقت علي أن العقوبات التي تزعم إيران أنها لم تؤثر عليها تشكل الآن ضغوطا علي النظام الإيراني وإن كان من المستبعد حتي الآن أن يصل الأمر لدرجة انهيار الاقتصاد الإيراني أما إلي أي مدي يمكن أن تتحمل طهران هذه العقوبات وإلي أي مدي يمكن أن تشكله من تفاقم لأزماتها الداخلية فهذه أمور ليس من السهل التنبؤ بها فطهران وإن كانت قد نجحت في استيعاب حزمة العقوبات الثلاث السابقة فإن الحزمة الرابعة تعد من أخطرها حيث تتعلق بالبنوك والجهاز المصرفي والأهم تلك التي تتعلق بالطاقة حيث فرضت أمريكا عقوبات علي أي شركة تقوم بتصدير البنزين أو أي منتج من منتجات النفط المكرر وقود السيارات والطائرات إلي إيران وأيضا فرض عقوبات علي أي شركة تزود إيران ببضائع أو خدمات تساعدها علي إنتاج هذه المنتجات، فضلا عن العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والتي استهدفت أيضا قطاعي الغاز والنفط ومنع الاستثمارات الجديدة في طهران.. إضافة إلي العقوبات التي أقرها مجلس الأمن والخاصة بفرض إجراءات ضد بنك يشتبه في صلتها بالبرنامج النووي الإيراني، وتحذيره من التعامل مع أي بنك إيراني بما فيه البنك المركزي. هذه العقوبات يري ناجي أنه يمكن استيعابها علي المدي القريب أما علي المدي البعيد فمن الصعب التنبؤ بمدي تأثيرها وإن كان من المرجح أن يكون كبيرا خاصة إذا ما استمر الضغط الدولي علي طهران. فالعقوبات الأخيرة تعد مؤشرا لبداية عقوبات أكثر شدة تتعلق بمجال الطاقة تحديدا وهو ما يزيد احتمالات تفاقم الأزمة الاقتصادية في إيران. والتي بدت بوادرها بإضراب البازار، من هنا يتوقع ناجي أن تلجأ حكومة نجاد الي تخفيف الضغط الداخلي عليها خاصة فيما يتعلق بالبازار ومن المرجح أن ترجع عن قراراتها الخاصة بفرض مزيد من الضرائب لامتصاص غضب التجار، فمن الصعب عليها الاستمرار في النهج المتشدد والذي يدفع إلي مزيد من تأجج الغضب والاحتجاجات الداخلية فيكفي طهران الآن ما تواجهه من ضغوطات خارجية. وليس من مصالحها الاستمرار في الحرب علي جبهتين.