تؤكد الوثائق أن تنظيم الضباط الأحرار لم يكن من الجيش فقط، فقد أظهرت الحقائق بعد الثورة أن هذا التنظيم كان له جناح بين ضباط الشرطة، وكان ضابط الاتصال بين التنظيم وهذا الجناح هو صلاح دسوقي الذي عين فيما بعد محافظا للقاهرة.. كما كان ضمن أفراد المخابرات الحربية أعضاء من التنظيم ولكنهم كانوا من الصف الثاني أو الثالث، كما عرف فيما بعد.. ومادمنا نستعرض أحداث وأسرار وتفاصيل ما جري قبل ثورة 25.. فإن هناك حقيقة مهمة في هذا السياق، فقد وصل السفير الأمريكي »مستر كافري« في آخر سبتمبر 9491 حيث تسلم مهام عمله الجديد في القاهرة.. وكان كافري في الحقيقة هو »خبير الانقلابات والاضطرابات العسكرية« في وكالة المخابرات الأمريكية المركزية، وقد قام بالعديد من هذه المهام في الشرق الأقصي وكذلك الشرق الأدني، وقد تقرر حضوره أو إرساله إلي القاهرة من أجل هذا الغرض بعد أن تبين للولايات المتحدة من خلال الإسرائيليين ورجالهم في مصر أن هناك تنظيما سريا في الجيش يقوم ويشارك في تنظيمه البكباشي جمال عبدالناصر.. علي إثر وصول كافري للقاهرة، بعث في لقاء عبدالناصر عن طريق صحفية أمريكية، وبالفعل تم هذا اللقاء في فندق ميناهاوس بالهرم.. ومن هنا كان طريق عبدالناصر الذي استمر طوال حياته.. وقد تدعم هذا الطريق بعلاقة عبدالناصر بعد ذلك بمايلز كوبلاند وكيرميت روزفلت، فالأول مسئول المخابرات الأمريكية المحلي بمصر، والثاني المسئول عن الشرق الأوسط وزمالته لهما، حيث كان اسمه الحركي بالمخابرات الأمريكية »الأخ الأكبر«. وهناك قصة أخري تؤكد العلاقة الوطيدة بين عبدالناصر والإسرائيليين قبل ثورة 25.. وتوحي إلي دوره في حرب فلسطين ومدي وصفه لليهود في ذلك الحين.. ففي احتفال بين جنود القوات المسلحة، حيث احتفلت الكلية الحربية بتسلم علم الرئيس في الثالث من مارس عام 5591 كان عبدالناصر يلقي كلمة جاء فيها: »أذكر يوم 61 أكتوبر عام 8491 وكانت الهدنة قائمة وهجم اليهود هجوما غادرا علي موقع الكتيبة السادسة في عراق المنشية، ولكنهم هزموا شر هزيمة.. وبعد أن استطاعوا تركيز قواتهم في مكان آخر صدر قرار مجلس الأمن بوقف القتال وعودة اليهود إلي مواقعهم وانتظروا تنفيذ قرارات مجلس الأمن فماذا كانت النتيجة عام 8491؟ لقد عزز اليهود مواقعهم وتمكنوا من خطوط الجيش المصري. شهادة التهامي وكان أحد شهود هذه الواقعة اليوزباشي حسن التهامي في اللواء المشاة الذي كان يضم أيضا عبدالناصر، وكان بالقرب منه في عراق المنشية.. يقول التهامي عن هذه الواقعة: لقد كان هذا الهجوم قبل عقد الهدنة الأخيرة بأسبوعين.. وفي الوقت نفسه الذي كان يجري فيه تفاوض بين مصر وإسرائيل في جزيرة رودس. وقد اختار اليهود قرية عراق المنشية كهدف لهجوم الدبابات والمشاة للضغط علي القيادة المصرية المفاوضة للخضوع لشروط إسرائيل في اتفاقيات الهدنة. وفي هذا الهجوم فقد عبر الإسرائيليون السلك الشائك رغم تصدي المدفعية المضادة للدبابات لهم وتوغلت بعض قطاعاتهم الهجومية حتي وصلت إلي مدرسة التدريس المقامة بكتيبة عراق المنشية والتي كان عبدالناصر يتخذ له فيها مكتبا.. وقد لاحظ جنود وضباط كتيبة عبدالناصر أن الجنود الإسرائيليين قد وصلوا إلي حائط هذه المدرسة، وأن عبدالناصر مازال جالسا في مكتبه بها لم يحرك ساكنا ولم يحاول الرد علي هذا الهجوم أو أن يتسلل إلي مهرب حتي لا يقع أسيرا في أيدي القوات الإسرائيلية.. وفي خضم هذا الهجوم وهذا الاقتراب من موقعه تطور الهجوم فجأة بمجرد بزوغ الشمس في ذلك اليوم، حيث تحطمت موجات التعزيز اليهودية عبر النيران نتيجة الضرب المكثف للقوات المصرية لها بالمدفعية الهاون والرشاشات بقيادة اليوزباشي حسن التهامي راوي هذه الواقعة من موقع تبة الكوبري الحاكمة لشريان الاتصال الرئيسي بين الفالوجا وعراق المنشية والمتحكم بالهاون والرشاشات في النيران المؤدية لعراق المنشية وخطوط اقتراب القوات الإسرائيلية المهاجمة.. وفجأة صدرت أوامر للقوات الإسرائيلية المهاجمة بالتوقف والانسحاب خشية الإبادة من جراء هذا الضرب المكثف. ويستدرك التهامي بقوله: وارتد الجنود الإسرائيليون عن سور المدرسة التي كان يجلس بداخلها عبدالناصر دون أن يتأثر بالهجوم أو باقتراب هؤلاء منه ولم يحاول اللجوء إلي قطاع آخر من الكتيبة بعيدا عن احتمالات الأسر أو القتل وكأنه كان جالسا ويثق في أنه لم ولن يصيبه أذي أو ضرر، بل وكأنه يستعد لاستقبال من يدخل عليه من الإسرائيليين. ويتساءل التهامي قائلا: أليس من المستغرب أن عبدالناصر لم يتحرك من مكتبه إلي غرفة العمليات أو المخبأ الخاص بإدارة المعركة وعملياتها؟!. بيان الثورة انتهت حرب فلسطين بهزيمة العرب وعقد اتفاقيات هدنة بين إسرائيل والدول العربية المواجهة لها.. ولا شك أن هذه الهزيمة كانت تشعر بعض العناصر الوطنية بمرارة وعار وشعور بالانتقام ومعاودة المحاولة مرة أخري.. من أجل النصر.. وكان هذا هو الأمل في ثورة يوليو 2591. ففي فجر يوم 32يوليو عام 2591 صدر أول بيان للثورة باسم قائد حركة الجيش يعلن عن هذا الحدث الجديد حيث كان يذيعه أنور السادات من الإذاعة المصرية.. وقد جاء به: »اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم.. وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير علي الجيش، وتسبب المرتشون في هزيمتنا في حرب فلسطين«.. وبالإضافة إلي عبارات وكلمات أخري.. فإن ما يهمنا في هذا البيان الأول الإشارة إلي حرب فلسطين، والهزيمة.. وعلي الفور يمكن تفسير تلك الإشارة بأن هذه الحركة المباركة الجديدة ستعمل علي النهوض بالجيش والاستعداد لنصر في فلسطين لمحو الهزيمة السابقة، وكذلك لاسترداد الحق العربي ولحماية حدود مصر من إسرائيل. ولكن هناك تفسير آخر يري أن البيان لم يقصد ذلك بالإشارة أو التصريح، إنما قد أشار إلي الهزيمة في فلسطين نتيجة لفساد الجيش والهدف هو إصلاح الجيش وليس بالنتيجة علي ذلك هو حرب فلسطين أخري من أجل النصر أو محو آثار الهزيمة السابقة. ويري أصحاب هذا التفسير أن المبادئ الستة التي أعلنتها الثورة فيما بعد لم تتضمن الإشارة إلي فلسطين إنما تضمنت بناء جيش وطني قوي.. ومن هنا فهم يؤكدون عدم اتجاه الثورة ابتداء إلي المواجهة مع إسرائيل أو التلميح بذلك علي الاطلاق. وحيث إن هذا الأمر قد بدأ بعض الأوساط الغربية الإشارة إليه فإن عبدالناصر قد سئل في حديث له بجريدة الأهرام ونشر في الثاني والعشرين من أغسطس 3591 عما يتردد في بعض الدوائر من أن هناك مساعي تبذل لعقد صلح مع إسرائيل؟.. فأجاب بنفي ذلك وقال: لقد سمعنا بأن هناك مساعي لكن لم يفاتحنا أحد في ذلك. مبادرة إسرائيلية للسلام ولكن إلي أي مدي كانت إجابة عبدالناصر صادقة وصريحة؟! إن الإجابة علي هذا التساؤل نجدها أيضا في نفس اليوم وهو 22 أغسطس ولكن في عام 2591 أي قبل حديث عبدالناصر في الأهرام بعام كامل، بل وبعد شهر تقريبا من قيام ثورة يوليو 2591. ففي اليوم المشار إليه دعا موشي شاريت وزير الخارجية الإسرائيلي مستر مونتيت دافيز السفير الأمريكي في إسرائيل ليطلعه علي أمر هام، وكان ذلك الأمر هو اقتراح أو خطوة بعقد اجتماع بين مصر وإسرائيل ولكن في سرية تامة. وقد قال الوزير للسفير الأمريكي: عندما أعلن بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل رغبة بلاده في إقامة سلام مع العرب، ومع مصر خاصة، كان رد رئيس الوزراء المصري علي ماهر بأن علق علي ذلك قائلا: إنه لم يتلق أي مقترحات من رئيس الوزراء الإسرائيلي، وهكذا فإن رد فعله كان متحفظا.. أما عبدالرحمن عزام أمين الجامعة العربية فكان رد فعله عنيفا.. وفي ضوء ذلك فإن حكومة إسرائيل قررت أن تتخذ خطوة أخري إلي الأمام، وهو الاقتراح علي حكومة الثورة المصرية عقد لقاء بين مبعوثي أو مندوبي البلدين.. أي عقد لقاء ثنائي بهدف بحث إمكانية إقامة سلام بين الدولتين.. وقال الوزير الإسرائيلي في رسالته لمبعوثه في باريس: إذا كان رد فعل حكومة الثورة علي هذا الاقتراح إيجابيا ومناسبا، فإن إسرائيل تترك لمصر حرية اختيار المكان الذي تفضل أن نعقد فيه تلك المحادثات، وإن إسرائيل أيضا علي استعداد تام أن تحافظ علي السرية في الموقع. وقد عقب السفير الأمريكي لوزير خارجية إسرائيل قائلا: إنه من الأفضل حقا ما فعلته إسرائيل في لجوئها إلي مصر مباشرة بدون اتخاذ الولاياتالمتحدة وسيطا بينهما، لأنها لو كانت إسرائيل قد فعلت ذلك أو اتخذت وسيطا لها مع مصر لغضب العرب وكان من المحتمل أن هذه الوساطة تفسد وتضر أكثر مما تفيد.. كما أضاف السفير للوزير الإسرائيلي فإنه لن يكشف النقاب عن هذا الحديث مع سفراء آخرين، وأنه لن يبلغه إلا لمسئولين معينين في السفارة.. وقال أيضا: إنه يمكن الاعتماد علي جيفرسون كافري السفير الأمريكي في مصر، ومع ذلك فهو لن يذكر في تقريره إلي واشنطن الأسباب والاعتبارات التي من أجلها اختارت إسرائيل الاتصال مباشرة بمصر ولم تفضل وساطة الولاياتالمتحدةالأمريكية. وبالفعل صدق السفير الأمريكي في قوله مع وزير الخارجية الإسرائيلي، حيث إنه بعث برسالة إلي واشنطن قال فيها: أبلغني موشي شاريت وزير خارجية إسرائيل بصفة سرية للغاية أنه سيوجه رسالة شفوية إلي مصر لعقد اجتماع لمناقشة إقامة سلام بين البلدين.. وإذا كان الرد المصري بالإيجاب فإن الحكومة الإسرائيلية تقترح عقد الاجتماع المشار إليه في باريس أو برن بسويسرا، وسيبلغ العرض الإسرائيلي إلي صموئيل ديفون القائم بالأعمال الإسرائيلي في سفارة إسرائيل في فرنسا ويترك له تحديد ما إذا كانت الاتصالات ستجري شفويا أم سيتم الاستعانة فيها بالمذكرات الدبلوماسية.. وأبلغني شاريت بأن تصريحات المسئولين الإسرائيليين حول الرغبة في تحسين العلاقات العربية الإسرائيلية بناءة وأن الدفاع عن السلام والاستقرار في الشرق الأوسط يستحق بذل الجهد في سبيله بصرف النظر عما تسفر عنه المبادرة الحالية.. وقد صدق السفير الأمريكي بأنه لم يذكر اعتبارات اتصال إسرائيل المباشر بحكومة الثورة.