مشاركة واسعة فى التصويت في عام 1770 ارتد "آدم وايز هوايت" أستاذ القانون في جامعة انفولد شتات الألمانية عن المسيحية، وفي عام 1776 أسس معبداً شيطانياً أطلق عليه "جماعة النورانيين"، وأسس نظريته في تقسيم الشعوب إلي فئات خيرة وأخري شريرة ليعد المؤسس الأول "لنظرية المؤامرة" التي أصبحت الآن تظهر وبوضوح وراء كل الأفعال التي لا نجد لها تفسيرا واضحا ولا منطقيا فنستدعي علي الفور نظرية "هوايت" التي خلقت لتدعم فكرة الانقسام في العالم وإقصاء العقل وتعطيل القدرات علي التفكير والتحدي والمواجهة.. ونزيد عليها الشك والريبة والعصبية الشديدة والترقب وكلها عوامل كانت موجودة في طوابير الاستفتاء. فالساعات الطويلة التي فرض علي الناخبين قضاؤها في طوابير طويلة ممتدة لم تضع فقط في الانتظار بالنسبة لي وإنما كانت بمثابة وقت كاف لممارسة عملي في رصد التغيرات التي طرأت علي المصوتين القائلين بنعم أو لا، خاصة أن الوقت الطويل سمح لي بزيارة أقارب وأصدقاء ومعارف في طوابير مختلفة رأيت فيها المصريين بعد أن فارق معظمهم المرح والتفاؤل لتحتل بدلا من ذلك أحاسيس الترقب والقلق والريبة وسيطرة نظرية المؤامرة لا فرق بين القائلين بنعم والمتوجسين من أصحاب لا الذين بالطبع لا يعرفون مصلحتهم الحقيقية ولا بالرافضين الذين رأوا أن الشك مقدم علي المشهد الانتخابي وأن كل قائل بلا متحفز لتفسير أي تصرف علي أن هناك مؤامرة هائلة معد لها بمهارة لإفشال كلمته، فالأمر تعدي مرحلة تقسيم المصريين إلي فئة مؤمنة وأخري بأكثر العبارت تهذيبا مشكوك في إيمانها إلي حالة من التحفز والضيق والكراهية والرغبة الجامحة في دخول معركة قد تبدأ بتبادل العبارت الحادة وتنتهي بتبادل اللكمات الحاسمة، ووسط كل هذا تنتشر موجات هائلة من الشائعات التي كانت كفيلة بإشعال الوطن، فحكايات الطوابير كثيرة ففي مدرسة ابن النفيس علي سبيل المثال كان المشهد شديد الغرابة من حالة صمت تخفي وراءها هدوءا ينذر بتفجر ثورة من الخلافات بدأت بسيدة خرجت من اللجنة وهي تصرخ بأنها تشك في شخصية القاضي ، وكانت تحرص علي أن صوتها يصل لآخر الطابور الذي امتد عشرات الأمتار والغريب أن ردود الفعل علي صراخها أكدت حالة الترقب والحذر التي سادت الطوابير ، فبسرعة شديدة خرجت واحدة من الطابور لتحذر الجميع موجهة خطابها للرجال والنساء علي السواء بأن لا ينخدعوا بصراخها فما هي إلا واحدة مندسة تهدف إلي صرف الناخبين حتي لا يقولوا "لا" وأنها بكل تأكيد كاذبة، وما إن انتهت المشكلة حتي نظرت فتاة شابة عرفت منها أنها طبيبة وأعلنت بعد أن نظرت في تليفونها المحمول أن هناك خبرا يؤكد أن لجنة 23 سيدات تمنع من التصويت لأن بها كثيرا من المسيحيات والطريف أن من تداركت الأمر سيدة مسيحية قالت إن المدرسة بها لجنتان فقط للسيدات هما 24 و21 وأنه لا وجود للجنة 23 سيدات ، وهدأت عاصفة كانت من الممكن أن تشعل النيران ، وفي ثوان قليلة بعدها احتدم حوار سياسي ساخن ما بين المؤيدين والمعارضين للدستور لم يذكر فيه الدستور ولا مرة واحدة وكان الحوار كله يدور حول شرعية الرئيس مرسي وما قدمه في شهور حكمه وعن غلاء الأسعار والأزمة الاقتصادية والتخوف من الأيام القادمة وعن الحكومة التي لم تتخذ إجراء واحدا لصالح المواطنين وعن حالة الأطباء والمدرسين ورجال الأعمال ، وعن الفوضي الأمنية حتي أن واحدة صرخت أنها أصبحت تشعر بالرعب الشديد بعد تعرض ابنة جارتها لعملية سطو مسلح لحظة خروجها من باب شقتها وعلي سلالم العمارة بعد أن فوجئت بشاب يضع مطواة علي رقبتها واستولي منها علي ممتلكاتها وفر هاربا والمفارقة أن الساعة كانت التاسعة صباحا ، الكل كان يتحدث عن يوميات الحياة ولم يتطرق أحد للحديث عن الدستور وإنما كان هناك إدراك عام أن الموافقة علي الدستور تعني الموافقة علي سياسات رئيس يراه البعض أنه ليس رئيسا للمصريين وإنما هو رئيس للجماعة وعشيرته وأبنائه المفضلين ، ولم يقطع ذلك الحوار سوي ظهور ورقة لا للدستور وبها المواد المعترض عليها ولم يتصد للدفاع عنها سوي سيدة كبيرة في السن حاولت أن تتحلي بأكبر قدر ممكن من الهدوء داعية بأن قول نعم يعني الاستقرار والبدء بعملية استقرار الدولة ، وتبدد ذلك المشهد أمام رجل صرخ عاليا وهو يطلب وسائل الإعلام لتسجل شهادته بأن الطابور لا يتحرك وأن وراء ذلك مؤامرة محبوكة علي منعه من التصويت ، ومرت الساعات الطويلة التي زادت من إصرار المصوتين علي الانتظار بصبر حتي جاءت لحظة الدخول إلي اللجنة. هاتفي أيضا لم يتوقف عن الرنين، حمل إليّ أصوات أصدقاء من الجنوب يتحدثون عن إغراق القري بكراتين الزيت والسكر وفرحة الفقراء بما يتم تقديمه لهم وعدم إدراكهم بأن ما يقدم لهم هو عبارة عن رشوة انتخابية هدفها تزييف إرادتهم وضمان الولاء الكامل في التصويت بنعم بناء علي رغبة الحزب الحاكم. توجهت إلي مدرسة محمد رفعت بالحي السادس بمدينة نصر التي كان من ضمن الواقفين في طوابيرها اللواء طيار متقاعد بهي الدين منيب، لاحظت حالة من الصمت تسود طابور الرجال، اقتربت من الرجل الذي تحدث بهدوء ورزانة عن المشهد الحالي، وعبر عن رأيه بصراحة فيما يجري حوله من أمور. فسر منيب نظرية المؤامرة بوجهة نظر حكيمة كان من المفترض أن يتبناها الجميع للخلاص من الحالة الصعبة التي تضيق الخناق علي الوطن، استنكر الرجل حالة الفرقة والانقسام التي تسود مصر، وفقدان ثقة المواطنين في الرئيس وجماعته من جانب والمعارضة من جانب آخر. ورأي أن ما حدث في الفترة الأخيرة من عنف وقتل لشباب كان من المفترض ألا يحدث بعد الثورة، فضلا عن تبادل حصار للمقرات ولقصر الاتحادية الذي هو رمز للدولة وحصار مسجد القائد إبراهيم والمحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامي من القوي السياسية المختلفة وقال إن هذا دليل علي السعي وراء مصالح شخصية وعدم والولاء لمصلحة الوطن بين المعارضة والسلطة وأضاف بأن البحث عن السلطة والسلطة فقط هي المؤامرة الحقيقية علي الوطن من كل الأطراف. أما في مدرسة "قومية الأهرام" في مصر الجديدة كان المشهد يحمل طابعا خاصا حيث اتخذ التعبير بنظرية المؤامرة اتجاها مغايرا وسيطر علي المكان، كانت المسألة تتم بالنظرات فقط، لاحظت سيدات ممن يرتدين الحجاب أو يظهرن بشعورهن المنسدلة يتفقن فيما بينهن علي إرسال نظرات حذرة إلي من يرتدين النقاب والخمار. صمت هائل يجثم علي المكان لم يمكنني من ضبط أي إحداهن تتحدث مع الأخري بينما كانت النظرات كفيلة بتصوير المشهد. كان من اللافت جدا مشهد طوابير الانتخابات التي تهيمن عليها نظرية المؤامرة. وعن الحالة التي تسود أحوال المصريين في طوابير الاستفتاء من علو نظرية المؤامرة، وحالة العصبية والتحفز والشك التي كان لها السيطرة واليد العليا يفسر عالم الاجتماع والمفكر سمير نعيم أن الفرق بين حالة طابور استفتاء مارس 2011 وحالة طابور ديسمبر 2012 هي الأحداث التي كانت بينهما وصنعت أحوال المصريين الآن. ويقول: في الاستفتاء الأول وقفت في الطابور وكانت وجوه الناس تشع نقاء وحبا وتحضرا وانتماء وحماسة وسعادة ولم يكن قد حدث بعد الانقسام الذي فرق المصريين بفعل فاعل إلي إسلاميين ولا إسلاميين وهو ما بدأ أثناء استفتاء مارس فاستخدم الإسلاميون منابر المساجد واختزلوا عملية الاستفتاء وقتها بأن نعم تساوي الجنة ولا تساوي النار وهم الذين سعوا إلي هذا الاستفتاء علي التعديلات الدستورية رافضين أن تكون نقطة البداية دستورا جديدا بدلا من ترقيع دستور قديم ومهلهل ومن هنا بدأ الاستقطاب الذي لم يكن من صنع الثورة ولا الثوار. ثم جاء رئيس وظهرت حالة الانقسام والفرقة، وتم زرع الشك في نفوس المصريين، وطال الشك الجميع فالبعض يري أن كل من كانت له لحية هو إرهابي وكل من لا يحملها هو علماني كافر، وفي رأيي أن الوجوه العابسة التي رأيتها في طابور ديسمبر ويعلوها الترقب والحذر ونظرية المؤامرة لم تكن تستفتي علي الدستور وإنما كانت تستفتي علي نظام الحكم من معه ومن ضده. ويضيف: لكني لا زلت أري بارقة أمل فالإرادة المصرية لا يمكن أن تتحطم تحت أي ظرف من الظروف. والمؤكد في مسألة التصويت علي الاستفتاء أن نعم لا تسبب الفرح وأن لا، لا تسبب أيضا الفرح وأن الشيء الوحيد المفرح هو الطوابير الممتدة التي ترسل برسالة واضحة للسلطة والمعارضة أن المصريين سيقولون رأيهم في كل مرة.