"مات صدام ولم تمت سيرته".. فمازال هناك العديد من الأسرار ما كان لها أن تري النور لولا تسجيلات ووثائق كشف عنها مؤخراً لاجتماعات سرية لنظام الرئيس الراحل صدام حسين في الفترة ما بين عام 1978 وحتي 2001.. أسرار يزاح عنها الستار وتسرد التفاصيل لتروي الكثير عن فترة حكمه من خلال وثائق سعت القوات الأمريكية للوصول إليها إبان غزو العراق، في محاولة منها لإيجاد ما قد يبرر خوضها للحرب.. قصص تسرد لأول مرة بعد أكثر من خمس سنوات ظلت حبيسة مراكز الدراسات والاستخبارات الأمريكية، تم تجميعها في كتاب بعنوان "تسجيلات صدام حسين: الأعمال السرية للحكم الطاغي"، لتظهر الشخصية الغامضة والجانب الخفي للرئيس الراحل الذي مازال مصدر تساؤل لكثيرين، كما يلقي الكتاب الضوء علي حرب الخليج الأولي والثانية وعلاقة بغداد مع واشنطن وتل أبيب وزعماء العالم العربي. كشفت معلومات سرية عن إحدي دوائر الاستخبارات الأمريكية أنه تم الاستحواذ علي مجموعة كبيرة من التسجيلات لحوارات شارك فيها صدام بلغت مدتها 2300 ساعة، تغطي اجتماعاته مع أجهزة صنع القرار العليا والمناقشات غير الرسمية مع مستشاريه ووزرائه والقادة العسكريين وشيوخ القبائل وشخصيات بارزة خلال أهم 23 عاماً في تاريخ العراق. قام بجمع محتوي هذه التسجيلات وتوثيقها في كتاب المحللين العسكريين الأمريكيين كيفن وودز وديفيد بالكي ومارك ستووت. ومنذ اللحظة الأولي له في حكم العراق، اعتبر مبدأ عدم الخضوع للقوي العظمي الطريقة الأساسية لدخول سجل التاريخ العربي، إلا أن تطبيق هذا المبدأ كلف الشعب العراقي ثمناً باهظاً. فخلال فترة حكمه لم تتمكن القوي العظمي السوفيتية آنذاك أو الأمريكية بعدها من معرفة حقيقة نوايا نظامه الفردي أوالوصول إلي مناقشاته خلف الأبواب المغلقة. وفي الكتاب ظهر صدام كسياسي معارض متآمر يستخدم العنف، وبات قوياً عند توليه منصب نائب الجنرال أحمد حسن البكر وهو في سن الثانية والثلاثين من عمره إثر انقلاب يوليو عام 1968. وقام بتصفية رفاق الحكم في حزب البعث الذين وجد أنهم منافسون أقوياء له، بل حاصر الرئيس البكر نفسه وأبعده عن الرئاسة ليتولي الحكم من بعده. وتشير التسجيلات إلي أن فترة حكم صدام تميزت بأخطاء فادحة، فكان يعتقد أنه قادر علي التحليل السياسي للأحداث بنفسه وكان يطلب من رجال مخابراته أن يقوموا بنقل المعلومات له كما هي دون أن يحللوها، وكان هو من يقوم بتحليلها، لكن ذلك كان يؤدي إلي وقوعه في أخطاء سوء التقدير للمعلومات المقدمة له، والدليل علي ذلك كانت الحرب علي إيران عام 1980 التي أطلق عليها من قبل الحكومة العراقية آنذاك اسم "قادسية صدام" بينما عرفت في إيران باسم "الدفاع المقدس"، فبعد الثورة الإيرانية ظن صدام أن الحكم في طهران بات هشا. فكان تقديره أن الحرب لن تزيد علي عام ورفض السماع للرؤساء العرب بعدم خوض الحرب، إلا أن الحرب استغرقت 8 سنوات عاني خلالها الشعب العراقي معاناة شديدة. وأثناء مناقشات جرت في منتصف الثمانينيات ذكر صدام أنه تعلم دروسا من الحرب الإيرانية وأدرك أنه لا يمكن إجبار طهران علي السلام بمهاجمة الأهداف العسكرية فقط بل يجب علي العراق استهداف الاقتصاد أيضاً. وبعدها يأتي خطأ ثان وهو غزو الكويت عام 1990 وما تلاه من تصاعد التوترات مع الولاياتالمتحدة وفرض العقوبات الاقتصادية. وكان صدام مستعدا لاستخدام الأساليب الحربية التقليدية مع إيرانوالكويت، لكن أيضاً لم يكن يتورع عن استخدام التفجيرات الانتحارية واغتيال القادة السياسيين. والتسجيلات، التي سعت واشنطن للعثور عليها لإيجاد ما يمكن أن يبرر حربها ضد صدام لامتلاكه أسلحة دمار شامل أو رسائل بين مسئولين عراقيين وتنظيم القاعدة وإثبات تورطه في هجمات 11 سبتمبر، كشفت أن صدام شعر عام 1995 بالحاجة للسيطرة علي مساعديه أكثر وإخضاعهم له، كما أنه فضل الاعتماد علي الأقارب في تسيير المؤسسات. فكل مساعديه كانوا يشعرون بالخوف من أي أخبار سيئة ينقلونها له فتغضبه، إلا اثنين من مساعديه كانا الأقرب والأقوي له وهما علي حسن المجيد وحسين كامل، فكانا لهما الحق في نقاش آرائه وقراراته. وكان هناك عدة تناقضات في الحوارات المسجلة، ففي جزء منها شدد علي مفهوم "العراق أولا" والمواضيع التي يمكنها أن توحد الطوائف والقبائل مثل القومية العربية، وفي جزء آخر، وصف الشيعة العراقيين غير الموالين للنظام بالفرس وكان صدام يري أن لديه قدرات عالية علي ممارسة الحكم الفردي بقسوة، ولم يكن في استعماله للعنف السياسي يهتم للتفريق بين المدنيين والعسكريين أو قواعد القانون الدولي، فكان يتبع مقولة مؤسس حزب البعث ميشال عفلق في كتابه "في سبيل البعث" إن القسوة هي الوسيلة المناسبة والأنجح لإحداث التغيير في الناس. وناقش صدام ولاء المناطق السنية والحرس الجمهوري له أثناء انتفاضات 1991 لكن التسجيلات كشفت القليل جدا عن إشارات صريحة للانقسام السني الشيعي أو وضع الأغلبية الشيعة من العرب. عوضاً عن ذلك وردت إشارات للانقسامات العربية الفارسية، مع استعمال كلمة فرس لوصف الشيعة العراقيين غير الموالين للنظام. وتظهر التسجيلات طموح صدام الكبير بوطن عربي كبير علي أن يكون ذلك تحت قيادة العراق وزعامته. وحول علاقة صدام بالولاياتالمتحدة وإسرائيل، عبر صدام عن نظرة تآمرية لقوة تل أبيب السياسية والعسكرية والثقافية ودور اللوبي اليهودي في أمريكا. فيما نسب صدام هجوم القاعدة علي مركز التجارة العالمية إلي الموساد الإسرائيلي. وينقل الكتاب عن جيمس كريتشفيلد رئيس جهاز المخابرات المركزية الأمريكية للشرق الأوسط في أواخر السبعينيات أن صدام دخل في علاقة وثيقة مع المخابرات المركزية الأمريكية ومع دبلوماسيين أمريكيين وشركات بترولية، لكن علاقة صدام تدهورت بالولاياتالمتحدة عندما تجاوزت طموحاته ما هو مسموح له به. ففي عام 1984 ظهر صدام وهو يطلب شراء الأسلحة من الدول الكبري. في أحد التسجيلات، يتحدث عن لقائه بالسفير الصيني في بغداد، وطلبه الحصول علي دبابات، ويقول صدام لسفير الصين ما يعكس سذاجته في الشئون الدولية »إن العراق يحق له أن يكبر كما صعدت بعض دول أخري«. وصار صدام يبدو مجنوناً للعالم الخارجي، وظهر ذلك واضحا في تسجيل للقائه مع كبار معاونيه في يوليو 1995 عندما كان العراقيون قد أطلقوا سراح أمريكيين عبرا الحدود الكويتية العراقية خطأ، وحاكموهما بتهمة التجسس، وأصدروا بحقهما حكما قضي بحبسهما 8 سنوات. علي إثر هذا، زار عضو الكونجرس بيل ريتشاردسون، المقرب من الرئيس بيل كلينتون بغداد، والتقي بصدام، وأسفرت وساطته عن الإفراج عن الأمريكيين. وفي التسجيل نفسه، يلفت صدام إلي تصريح لوزير الخارجية الأمريكي وارن كريستوفر، قال فيه إن التعب أصابه من محاولته فهم عقل صدام حسين الصعب. وتكشف التسجيلات أنه كان قد أعد مؤامرة لقتل الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأب وذلك عن طريق تكليف شخص انتحاري يضع حزاماً ناسفاً حول جسده أثناء زيارة بوش للكويت، وهو ما كشف عنه الرئيس السابق بيل كلينتون في يونيو 1993 ولكن اكتشفت المخابرات الأمريكية الخطة في الوقت المناسب وقامت بإحباطها. ومن بين هذه التسجيلات علي سبيل المثال ما كان يفكر فيه من اغتيال زعماء سياسيين عن طريق التفجيرات الانتحارية، وهو ما ظهر في تسجيل له في مايو عام 1992 عندما كان يبحث خطة لاغتيال كل من الرئيس السابق حسني مبارك والملك الراحل فهد بن عبد العزيز بسبب دوريهما في حرب تحرير الكويت، إلا أنه لم يستطع تنفيذ خطته. ويعتبر المحللون السياسيون هذا الكتاب بمثابة دراسة لمحاولة فهم شخصية الرئيس الراحل الذي حير العالم في حياته وحتي بعد مماته، والتعرف من خلاله علي طريقة صنع القرار السياسي في الشرق الأوسط وطبيعة شخصية الحكام الذين يستخدمون الحكم الفردي والعنف السياسي.