في بداية التسعينيات من القرن الماضي كنت ضمن مجموعة من الصحفيين في زيارة لأمريكا للتعرف علي النظام الانتخابي علي مستوي الولايات وعلي مدي شهر امتدت الجولة من الشرق إلي الغرب والوسط والجنوب ، الزيارة كانت مناسبة لاستكشاف كيف تعمل آليات الديمقراطية وكيف تجري فعالياتها وقد أدركنا خلال الزيارة أن المواطن الأمريكي لاتشغله السياسة كثيرا كما نفعل نحن في الشرق فهو لا يتابع أو يهتم بما يجري خارج ولايته وربما مدينته وكل مايشغله وظيفته ومسكنه وسيارته والحفاظ عليها ، رأينا كيف تكون لغة الحوار بين المتنافسين ،وفي يوم الانتخاب ذهبنا لأحد مراكز الاقتراع فوجدناه مجرد مكان أشبه بمستودع قديم وبه عدة فواصل بين مكاتب عليها أجهزة كمبيوتر للتصويت الإليكتروني وعدد من الموظفين لتسجيل أسماء الناخبين ولا لافتات دعاية أو شرطة أو قضاة أوطواريء وشغب وبلطجة ، وفي اليوم التالي بعد إعلان النتائج رأينا سلوكا حضاريا تمثل في احتفال صغير جمع بين المرشحين الفائز والخاسر وتهنئة من الأخير للأول وتعهد بمساندته وسط أجواء خالية من الشحن أو الشجار، هكذا تعمل الديمقراطية في بلاد قطعت شوطا طويلا في ممارستها ، نكره ماضي أمريكا الدموي وسياسات وممارسات قادتها ضد شعوب الأرض لكن لانستطيع إنكار أن هناك ديمقراطية تمتد لأكثر من قرنين من الزمن ربما يداخل الانتخابات هناك بعض العوامل المؤثرة كالمال السياسي وجماعات الضغط (اللوبي الرأسمالي واليهودي) ومايجري هذه الأيام قبل أسبوع من حسم السباق الانتخابي في الثلاثاء الأول من نوفمبر بين المرشحين الأبرز للحزبين الكبيرين (الديمقراطي والجمهوري) أوباما ورومني يشير إلي أن الانتخابات ليست موسما للفوضي الخلاقة والبلطجة وسقوط الضحايا والتشكيك والطعون والتخوين والمال غير القانوني كما هو الحال في انتخابات دول المشرق العربي عامة ومصر تحديدا !! وأتساءل هنا : هل نتذكر جيدا أسماء المرشحين الخاسرين في انتخابات بلدان الغرب ربما بصعوبة ، هل مارسوا أي دور وكان لهم أي ظهور بعد هزيمتهم ، هل شككوا في صحة وسلامة فوز غيرهم ؟ في النادر حدوث ذلك (حالة جورج بوش الابن) ، وغالبا ما تعتبر نتيجة الانتخابات بداية تواري الخاسرين عن الأضواء واكتفائهم بالسفر للسياحة ولإلقاء المحاضرات وممارسة أعمالهم السابقة والخلود للراحة والاستجمام وتمضية حياتهم في هدوء! أما نحن ربما لأننا في بواكير ممارسة الديمقراطية فحدث ولا حرج فيما جري ويحدث في البدايات خاصة بعد سنوات طويلة من الاستبداد والقهر والفساد وعصر السيادة للحاكم الفرد ونظامه ، انفتحت الأبواب في مصر بعد ثورة سلمية بيضاء قياسا علي ثورات الربيع العربي الأخري فخرج الجميع من ذلك النفق المظلم يتخبطون وترتبك خطواتهم فعشنا لأكثر من عام ونصف العام في هذه الحالة شديدة الاضطراب والفوضي أسهم الجميع فيها بلا استثناء علي المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية ،كانت أشبه بما يسميه المصريون (العزال) أي الانتقال لمسكن جديد ربما أوسع مساحة أو أكثر راحة من القديم، لكن المسألة أشمل وأعم من ذلك فهي عملية هدم لبناء قام علي أعمدة فاسدة نخر سوس الفساد فيها فصار كالهشيم تذروه الرياح وحرم المصريين من كل الحقوق الإنسانية التي يجب أن يتمتع بها البشر وفي مقدمتها الحرية والعدالة والعيش الكريم. ماحدث العام الماضي والحالي هو أن شركاء الثورة بدأوا في جني ثمارها قبل أن تنضج فانصرف كل منهم إلي جماعته وحزبه وائتلافه الجديد وأيدولوجيته وبدأ الصراع بينهم، كما سيطر مفهوم خاطيء للحرية التي حصل عليها المصريون فكل يتصرف بما يتراءي له فكان الانفلات واسع المدي في كل مجال ومكان في الشوارع وأماكن العمل وعلي شاشات الفضائيات والإنترنت بين كل الأجيال، غلبت لغة المصالح الضيقة علي مصلحة الوطن وكل يدعي أنه من صنع الثورة، وكان الاستفتاء الذي أظهر انقساما حادا في أعقابه بين قوي مدنية وإسلامية وكانت انتخابات البرلمان ثم الرئاسة وصارت المحاكم الباب الملكي لكل الباحثين عن الشهرة والطعن في كل شيء وزادت انتخابات الرئاسة من حدة الانقسام خاصة بعد وصول مرشحين للجولة الأخيرة أحدهما ينتمي للنظام القديم والآخر للتيار الإسلامي، ومع الأسابيع الأولي للرئيس الجديد وضح أن التيارات الليبرالية واليسارية قررت العمل علي إفشال التجربة وإسقاطه عبر ساحات القضاء والفضاء، وعلي عكس التجارب الديمقراطية فإن بعض المرشحين السابقين للرئاسة بدا أنهم لايرضون بنتائج صناديق الاقتراع ويصرون علي أنهم الأحق بل ويعيش بعضهم في وهم الزعامة ، ثم جاءت معركة الدستور لتلتف هذه القوي لإسقاط لجنته والحيلولة دون وصول مشروع الدستور لمحطة الاستفتاء العام، اختلط الحابل بالنابل وصار الجميع يفتون بما يعلمون وبما لا يعلمون، وبدلا من أن تنظم المعارضة صفوفها وتبني قواعدها الشعبية وتطرح أفكارها ومشروعاتها أصبح هاجسها الوحيد الانقضاض علي الرئاسة وتعطيل كل شيء، والأخطر عودة فلول النظام القديم للمشاركة لاستعادة نفوذهم واسترداد مافقدوه من خلال الأحزاب والتجمعات المختلفة، القضاء أيضا دخل الساحة فزادها سخونة فغالبية أحكام القضايا الخاصة بالجرائم التي ارتكبها النظام السابق وجدت طريقها إلي البراءة من بوابة ضعف وتهافت الأدلة، ورأينا ظاهرة غريبة هي انغماس الكثير من القضاة في السياسة ومعاركها مما يفقدهم صفة النزاهة والحيدة والعدالة المطلوبة. أمامنا مشوار طويل لكي نمارس ديمقراطية حقيقية لاتخضع للأهواء أو الإقصاء وتصفية الحسابات والمعارضة الحقيقية هي التي تستطيع أن تكسب الشارع فتنتقل مستقبلا للحكم عبر تلك الشعبية ومايحدث في مصر هو نوع من العبث السياسي وصناعة الفوضي من البعض الذي لايريد للبلاد أن تنهض من كبوتها وتستعيد دورها ومكانتها حتي يظل في الصورة ولا شيء يهم!!