غداً سيذهب المصريون إلى صناديق الاقتراع لاختيار رئيس بالاقتراع الحر المباشر فى أول انتخابات رئاسية تعددية تجرى بعد ثورة 25 يناير.. وهذه بحد ذاتها سابقة لم تحدث فى تاريخ مصر الحديث، ولم تحدث طوال عمر الجمهورية الأولى الذى بلغ حوالى الستين عاماً. وفى هذه المناسبة، لا بد من توجيه الشكر لشباب مصر ورجالها ونسائها الأبطال، ونطلب الخلود لمن قدموا حياتهم شهداءً من أجل نجاح الثورة وحدوث هذا التغيير الحقيقى فى منظومة حكم مصر. لدى بعض النقاط الأساسية التى تستحق أن تناقش، ومن الجدير أن تناقش قبل أن تجرى الانتخابات حتى نضع من خلال النقاش الهادئ مبادئ يمكن الرجوع إليها وإقامتها كحجة فى مواجهة تصورات من المحتمل حدوثها بعد الانتخابات. وحين نناقش هذه المبادئ قبل الانتخابات، فسيكون الأمر موضوعياً ومحايداً لأن النتائج لم تحسم بعد، وحتى لا يتصور أحد أنها تطرح فى مواجهة فصيل سياسى دون غيره. فالأصل فى المبادئ أن تكون مجردة ومحايدة وأن تطبق على الجميع، وبمعايير موحدة. أما إذا سمح بازدواجية المعايير أو تطبيق أكثر من معيار على الحالات ذاتها، فإن ذلك من شأنه تقويض المبادئ والقيم والمعايير التى يلتزم بها المجتمع، ومن ثم تضيع منه ملكة القدرة على الحكم على الأشياء وتقييمها. فدعاة "الدستور أولاً" لم ينطلقوا، فى تقديرى، فى موقفهم الداعى للتصويت برفض التعديلات التى اقترحت على دستور 1971 فى الاستفتاء الذى أجرى فى مارس 2011، من موقف مسبق لما قد يسفر عنه الاستفتاء، وإنما انطلقوا من رؤية أن رفض التعديلات سيؤدى إلى انتخاب جمعية تأسيسية انتخاباً مباشراً لوضع دستور جديد للبلاد.. وتثبت التطورات اللاحقة صحة هذا الطرح. كذلك، لم ينطلق هؤلاء فى معارضتهم لآلية وضع الدستور التى حددها الإعلان الدستورى الذى أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى 30 مارس 2011 من اعتبارات سياسية خاصة بأى من الفصائل السياسية التى سيكون لها الأغلبية فى البرلمان وإنما استندت معارضتهم إلى عدم منطقية إصدار الدستور استناداً إلى ما تفرزه التفاعلات السياسية التى من المفترض فى الدستور أن يحدد القواعد التى تنظمها. وهذا الأمر أكثر وضوحاً فى انتخابات الرئاسة، إذ يصعب التنبؤ مسبقاً بما قد تسفر عنه هذه الانتخابات مع التحول السريع فى حظوظ المرشحين، حسبما تشير استطلاعات الرأى، بل يصعب توقع مسار انتخابات الرئاسة نفسها، فى ظل التحذيرات والتوقعات التى يطلقها البعض بشأنها، وبالتالى، يكون لوضع المعايير والقواعد الحاكمة للمواقف فرصة أكبر فى أن ينظر إليها بحيادية، كما أن هذه المعايير والمبادئ تكتسب أهمية كبيرة، إذ أن من المؤكد، فى انتخابات الرئاسة، أن شخصًا واحدًا يمثل فصيلاً واحدًا دون غيره هو الذى سيفوز بمنصب الرئيس. هناك تساؤلات يتعين طرحها والاجتهاد فى الإجابة عليها قبل أن تحدد صناديق الاقتراع الفائز بمنصب الرئيس، وقد يكون السؤال الأول والأكثر إلحاحاً الآن: هل سترتفع أصوات الفصائل غير الفائزة فى انتخابات الرئاسة أو بعضها بالصياح والاحتجاج بأن الانتخابات كانت غير نزيهة أو مزورة، وهل سنتحول من ساحة التصويت والانتخابات إلى تبادل الاتهامات وفوضى الكلمات، أم سيحترم الجميع نتائج الانتخابات ويقولون بصوت واحد كما تفعل الأمم المتحضرة :لنا رئيس واحد؟ إن هذه الصورة السلبية مرشحة لأن تطفو على السطح بعد الانتخابات، حيث سارعت بعض الفصائل السياسية فى فترة مبكرة مع بدء إجراءات الترشيح فى انتخابات الرئاسة إلى التلميح بأنه سيجرى تزوير هذه الانتخابات، مما يرجح أن تزعم هذه الفصائل فى حالة عدم فوز مرشحها فى الانتخابات بأنها زورت. كذلك ثمة احتمالات أن يلجأ بعض هذه الفصائل، إذا استشعر أنه خاسر فى الانتخابات، إلى افتعال أزمة تمكنهم من إجهاض الانتخابات أو تعطيل مسارها، فما هو الموقف حيال هؤلاء غير الفائزين إذا كيفوا رد فعلهم تبعاً لأهوائهم ومصالحهم الشخصية أو الحزبية؟ من المفيد أن نجيب على هذا التساؤل الآن قبل أن يأتى الغد. السؤال الثانى الذى لا يقل أهمية عن الأول: هل سيكون من حق الفصائل غير الفائزة أن تخرج للاحتجاج والتظاهر على عدم فوزها باسم الحرية والحق فى التظاهر، وإذا حدث هذا، فما تعريف الاحتجاج إذا قام به غير الفائزين فى التوصيف القانونى الصحيح لحقوق وواجبات المواطنين؟ إننا لا نقصد من طرح هذا السؤال تجريم حق المواطنين وحريتهم فى التعبير وفى الاحتجاج السلمى، ولا نقصد منه قطعاً تقييد الحق فى المعارضة على سياسات الحاكم وحكومته، فهذه حقوق مشروعة ليس فى وسع أحد أن ينكرها أو يتنكر لها وأصبحت ركناً أصيلاً فى حقوق الإنسان والحقوق السياسية والمدنية، بل وباتت ركيزة للنظم السياسية الفعالة وضمانة للحكم الرشيد. ولكننا قصدنا من هذا الطرح الإشارة إلى ضرورة التمييز بين الخلط بين المعارضة وممارسة الحق فى الاعتراض وبين الاعتراض على نتائج الانتخابات والتشكيك فى نزاهتها إذا لم تكن مواتية لهذا الفريق أو ذاك.. فالقصد هو تأمين الانتخابات وما قد تسفر عنه من نتائج فى مواجهة مناخ انعدام الثقة السائد وعدم إخضاعها للأحكام الناجمة على الأهواء والميول السياسية. أما السؤال الثالث فهو: هل من المحتمل أو من المتوقع أن تقوم الفصائل غير الفائزة بعمليات تصفية حسابات ضد فئات بعينها من المجتمع، بهدف زعزعة الاستقرار، وكتحدٍ مباشر للرئيس الجديد، أو لتحميل فئات بعينها مسئولية نجاح الرئيس الجديد وجعل رياح التصويت تأتى بما لا تشتهى سفنهم؟ وإذا صدق هذا، فهل سيكون تنبؤاً سخيفاً تحقق، أم أنه سيكون تحليلاً واقعياً لتاريخ وسلوكيات شرائح بعينها من البشر؟ وهل سيطول هذا الصراع المفترض حتى ينهك ما تبقى لشعبنا من أمل فى الحرية والحياة؟ أم سيتسبب حينذاك فى استدعاء الديكتاتورية والقمع العنيف والعودة إلى السجون والمعتقلات من أجل الحفاظ على أمن البلاد وسلامتها؟ ومن هنا يفرض السؤال الرابع نفسه على المشهد، وهو: إذا سارت الأمور على هذا النحو المتشائم وغير المتحضر، فهل ستعود القوات المسلحة إلى ثكناتها؟ أو أن يطالبها الرئيس الجديد بهذا؟ أم سيضطر إلى الاستعانة بالقوات المسلحة لدرء الفتنة وحفظ الأمن؟ وحينئذ يجد المهزومون فى الانتخابات حجتهم للاشتباك مع أجهزة النظام باسم الحرية وباسم رفض تدخل العسكر، قائلين: ألم نقل من البداية أن العسكريين لا يريدون تسليم السلطة؟ أم ستعود إلى المسامع والأذهان كلمات أم عبد الله بن الأحمر، آخر ملوك الأندلس، حينما غادر قصره إلى منفاه قائلة له: "لا تبك كالنساء ملكاً لم تصنه كالرجال" . كان ينبغى أن يكون انتخاب رئيس جديد لمصر فى ظروف ديمقراطية عادلة بهذا الشكل يوم عرس للديمقراطية، ولكن المتشائمين يأبون أن يتركونا نهنأ بيوم عرس الديمقراطية ويطرحون علينا هذه الأسئلة المتشائمة المزعجة، مدللين على تشاؤمهم بأنه ليس إلا تحليلاً لسلوكيات شرائح من البشر من شعبنا، وأن السلوكيات لم تتغير ولن تتغير، وهكذا يصر هؤلاء المتشائمون على أن الديكتاتورية لا يصنعها الحاكم وإنما الشعب هو الذى يصنع الديكتاتور . قصدت أن أطرح هذا السيناريو الذى هو أشبه بكابوس ليلة صيف، أكثر من كونه تحليلاً سياسياً أو اجتماعيًا قبل أن تجرى الانتخابات مباشرة حتى يكون الحكم عليه عادلاً وموضوعياً، فالنتائج لم تظهر بعد، لأن طرح هذا التحليل المزعج بعد حدوثه لابد من تصنيفه على أنه شكل من أشكال المؤامرة ونوع من الانحياز للرئيس الجديد وللجيش على حساب الذين خسروا الانتخابات المظلومين الذين يطالبون بحقوقهم المسلوبة.. بينما يكون طرح هذه الأسئلة قبل الانتخابات بمثابة علامات تحذير قوية للأمة بأسرها فائزين وخاسرين، من مغبة التساهل مع من يفعل هذا الشر العظيم، ومن يضحى بأمن الوطن وسلامته من أجل انحياز طائفى أو حزبى لن يجلب إلا الخسران على الجميع ولن تنجح إلا فى إعادة الديكتاتورية والقمع إلى المشهد وبأضعاف ما كان فى تاريخنا طوال السنين الخوالى. رئيس أساقفة المجمع المقدس لكنائس القديس أثناسيوس للتواصل: [email protected]